نعمت القدس بأزهى عصورها في فترة حكم السلطان سليمان القانوني التي امتدت لأكثر من 45 عاما (1520-1566)، فقد اهتم بها وأعاد بناء سورها الذي ظل مهدما 3 قرون بعد جلاء الصليبيين عنها.
كما اهتم بمشكلة المياه التي كانت المدينة تعاني منها، فخصص أموالا كثيرة لبناء المنشآت المائية، فعمر برك سليمان، وقناة السبيل التي كانت تزود القدس بالماء من هذه البرك.
الظروف التاريخية
كانت مدينة القدس تعاني من نقص حاد في المياه ومصادرها، خاصة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة. حيث اعتمد السكان على جمع مياه الأمطار في البرك والآبار والصهاريج والخزانات والأحواض لتوفير مياه الشرب، وكان يتم نقل الماء بواسطة الروايا والقرب إلى منازلهم. واستخدموا عيون الينابيع لريّ محاصيلهم المحدودة.
الأهداف
أرهقت أزمة المياه في القدس سلاطين الدولة العثمانية في إسطنبول وموظفي الإدارة العثمانية في القدس، وعملوا على اقتراح حلول وتنفيذ مشاريع لتوفير أكبر قدر من المياه للمدينة من عيون الينابيع التي يمكن سحب مياهها إلى القدس.
فقرر السلطان سليمان القانوني تنفيذ مشروع “برك سليمان”، الذي يقع على بعد 20 كيلومترا من القدس في بيت لحم.
التنظيم
توجد في جنوب مدينة بيت لحم الفلسطينية 3 برك ضخمة وتحديدا بين بلدتي أرطاس والخضر، بنيت اثنتان منها في العصر الروماني، والثالثة بناها السلطان سليمان القانوني ورمم البركتين الرومانيتين. وكان ذلك سنة 943هـ، أي بين عامي 1536م و1537م.
تبعد البرك الثلاث التي تعرف “ببرك السلطان سليمان القانوني” عن بعضها البعض من 42 إلى 49 مترا.
- البركة الأولى (العليا): يبلغ طولها 116 مترا، وعرضها في قاعها 71 مترا وفي أعلاها 70 مترا، وعمقها 8 أمتار، ونُحِت الجزء الأكبر منها في الصخر، وبُنِي الجزء الآخر.
- البركة الثانية (الوسطى): ينخفض مستواها 6 أمتار عن الأولى، ويبلغ طولها 129 مترا، وعرضُها في أعلاها 50 مترًا، ومن الأسفل 76 مترًا، وعمقُها 12 مترا. وتصُبُّ في زاويتها الشمالية الشرقية قناةُ ماء تتصل بعين صالح، وهي محفورةٌ كلها في الصخر.
- البركة الثالثة: (السفلى): يبلغ طولُها 177 مترا، وينخفض سطحها عن البركة الثانية بـ6 أمتار.
وتتصل قنوات هذه البرك ببرك أخرى، فقد عثر على مصادر مناسبة للمياه في الوديان والينابيع والبرك الواقعة جنوبي مدينة بيت لحم، بين القدس والخليل، وعلى بعد 23 كيلومترا من القدس.
ففي وادي العروب 7 عيون، هي: فريديس وعين مزرعة والفوار وعين البص وعين البرادة وعين قوزيبا وعين الدبلة.
وفي وادي البيار من أراضي الخضر 5 ينابيع غزيرة والبالوع المسمى عين الخضر.
هذه الينابيع الكائنة في وادي العروب ووادي البيار والبالوع يصب ماؤها في برك سليمان، ومنها يخرج الماء، ويلتقي بمياه عيون أرطاس، وتجري كلها في قناة إلى القدس.
وقد تم حفر وتشييد هذه المجاميع المائية بطريقة هندسية فريدة من حيث كيفية تسييل المياه من البركة الأولى العليا للبركتين الثانية والثالثة، وأيضا فيما يتصل بالقنوات المائية وطريقة إيصالها للمياه لمسافة كيلومترات عدة وصولًا إلى القدس.
وقف لكل المسلمين
في سجلات المحكمة الشرعية بالقدس حجة تفيد بعقد مجلس شرعي في قبة السلسلة القائمة شرقي قبة الصخرة المشرفة، حضره جمهور غفير من قضاة المسلمين وعلمائهم وأمرائهم وعامة القوم من سكان القدس.
ومنهم جعفر بك كاتب الولايات الشريفة السلطانية، وصالح أفندي بن القزويني والي القدس، ودرويش جلبي كاتب الدفتر الشريف، وأحمد جلبي كاتب الدفتر السلطاني، وأبو بكر الجماقي ترجمان كاتب الولاية، والقاضي صنع الله بن البدري، والقاضي شمس الدين بن ربيع، والقاضي سعد الدين العلمي المالكي والقاضي شمس الدين المصري، والعلامة بدر الدين الشافعي، والعلامة الكمالي، والشيخ أبو الفتح بن فتيان، والشيخ أبو السعود العزي، وغيرهم.
في ذلك المجلس قرر السيد محمد جلبي النقاش، وأشهد على نفسه أنه قد عمر قناة السبيل من برك سليمان إلى القدس، وأنشأ بها القساطل وأجرى فيها ماء العيون، وأنه قد وقفها على عامة المسلمين، وأوقفها كذلك صدقة عن “مولانا الإمام الأعظم سليمان شاه خلد الله خلافته”، وذلك بتاريخ 4 يونيو/حزيران 1541م.
وعلى الجانب الآخر أمر السلطان سليمان بإنشاء الأسبلة وترميم القديم منها وتجديده وإصلاحه في كافة حارات المدينة وأحيائها ومنها: السبيل على بركة السلطان، ظاهر القدس، والسبيل بمحلة باب السلسلة، والسبيل لوضوء الحنفية، والسبيل لوضوء الشافعية بالمسجد الأقصى، والسبيل المعروف بالشادروان، والسبيل بمحلة باب القطانين، ومنه مدت قناة لتزويد حمام تنكز، والسبيل بمحلة باب الناظر، والسبيل تجاه باب الدويدارية والسبيل بباب الأسباط بمحلة باب حطة ومنه مدت قناة لتزويد حمام باب الأسباط.
هذا إضافة إلى الأسبلة التي أنشأها رجال الإدارة العثمانية في القدس، مثل سبيل باب المحكمة (سبيل قاسم باشا والي القدس سنة 1524م، الكائن على بعد 150 مترا جنوب باب النبي داود)، وسبيل طريق الواد، وسبيل باب العتم، وسبيل باب السيدة مريم، وسبيل الشيخ بدير، الذي أنشئ سنة 1740م، وسبيل مصطفى آغام متسلم القدس، وسبيل عبد الله الشوربجي بباب العامود، وسبيل الخزرجي بالباب نفسه، وسبيل داود في جل العدار، وإعمار وترميم سبيل قايتباي وسبيل الشعلان.
المحافظة على سبل المياه
بقي تزويد مدينة القدس بالمياه حاضرا في الذهنية العثمانية الرسمية، ففي سنة 1656م، بمناسبة زيارة محافظ غزة حضرة حسين باشا مدينة القدس، ولما رآه من ضيق شديد أصاب الناس بسبب قلة الماء، لا سيما وأن الماء الوارد إلى القدس لا يفي بحاجة السكان لازدياد عددهم وتوسع المدينة.
واقترح عليه المعمارية لتزويد المدينة بكميات أكثر من الماء إدخال مياه عين أرطاس إلى قناة البرك وإيصالها إلى القدس، وعهد إلى المعمارية والمعلمين والعمال والحجارين، وأنفق على المشروع من ماله الخاص 6 آلاف قرش أسدي.
السلطان مراد الرابع وأمير الأمراء سنان باشا
تشير سجلات الأوقاف العثمانية إلى استمرار تعمير قناة السبيل وترميمها، وإجراء الإصلاحات والصيانة اللازمة، وذلك لأنه خلال تلك الفترة تعمد اللصوص وقطاع الطرق تخريب أو تدمير القنوات التي كانت توصل ماء الشرب إلى مدينة بيت لحم أولا، ثم إلى مدينة القدس لاحقا.
مما دفع السلطان مراد الرابع (1622م-1639م) إلى بناء “قلعة مراد” مقابل برك سليمان، وعيّن عليها دردرا (قائد الحرس) و40 جنديا، وشحنها بالمدافع والأسلحة والذخائر والمؤن والمياه وما يلزم لسكن الجند. فكان للقلعة دور مهم في حفظ الأمن وحراسة ينابيع المياه وقناة السبيل لمدة طويلة.
وتولى أمير الأمراء سنان باشا محافظ القدس لاحقا ترميم قناة السبيل وعمارتها سنة 1666م.
عهد السلطان عبد الحميد الثاني
في العهد العثماني الأخير، وبالتحديد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1898م، تم مد أنبوب من الفخار حتى بيت لحم ومن هناك إلى القدس، حيث تم تركيب أنبوب حديدي وصار الماء يجري في قناة حجرية.
كانت قد شُكِّلت هيئة فنية من نظارة النافعة، وأرسلت من إسطنبول للإشراف على هذا المشروع. ومُنح امتياز توريد المياه إلى القدس من القناة إلى شركة ألمانية بتكلفة قدرها 160 ألف فرنك.
وجُلبت المياه من عيون الفوار وعين قارة، بقوة ضخ على مدار 24 ساعة توفر من 2 إلى 3 آلاف متر مكعب يوميا. كانت القناة تحت الأرض، وتم إنشاء أحواض وقساطل لتوزيع المياه بشكل فعال.
برك سليمان بعد العهد العثماني
في أوائل فترة الانتداب البريطاني عام 1919م، تم تغيير القنوات الفخارية بقناة جديدة ومضخة معدنية لنقل المياه إلى مدينة القدس.
وفي عام 1997، جُففت البرك بسبب تكرار حالات الغرق، مما أدى إلى إهمالها وتحولها إلى مكب للنفايات ومرتع للكلاب الضالة ومكان لنمو الأعشاب، وخلال تلك الفترة، حاول المستوطنون فرض سيطرتهم على المنطقة عن طريق تهويدها وإقامة صلواتهم التلمودية هناك.
لكن لاحقا تمت إعادة إحياء المنطقة، ونُظفت البرك وأصبحت موقعا سياحيا ترتاده العائلات والأطفال للاستمتاع بجمال المكان.
كما تم بناء قصر للمؤتمرات لإقامة الحفلات والفعاليات في المنطقة، وتم ترميم قلعة مراد وإنشاء متحف فيها يحتوي على 400 قطعة أثرية يعود تاريخها إلى أكثر من 5 آلاف عام.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.