دعم غربي استثنائي لإسرائيل.. هل نعيش في عصر صليبي جديد؟ | تراث
الجزيرة نت

دعم غربي استثنائي لإسرائيل.. هل نعيش في عصر صليبي جديد؟ | تراث


في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023م أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ضرورة تحقيق “نبوءة إشعياء”، وهي النبوءة التي تتكون من 66 إصحاحا في الكتاب المقدس والتي تتحدث عن قيام دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، والدمار الهائل الذي سيحل بالعراق والشام ومصر واليمن.

وبمتابعة تصريحات المسؤولين الأميركيين، يظهر جليا استدعاء النصوص الدينية ومشاهد ومصطلحات من الحروب الصليبية السابقة، في الأشهر الثمانية الماضية. مثلا، يقول رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون في تصريح صحفي في إبريل/نيسان الماضي 2024م: “إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم”.

أما نيكي هيلي المرشحة السابقة للانتخابات الأميركية، ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في عهد إدارة ترامب وحاكمة ولاية كارولينا الجنوبية فترتين، فقد زارت شمال إسرائيل قبل مدة قصيرة، والتقطت لها الصحف الإسرائيلية والعالمية مجموعة من الصور وهي تكتبت على إحدى المقذوفات “اقضوا عليهم”، بل وتؤكد أن معظم الشعب الأميركي يقف مع إسرائيل، وأنه يجب أن يظهر مزيد من الدعم الأميركي اللامحدود لهذا الكيان.

المرشحة السابقة للرئاسة الأميركية نيكي هيلي خلال زيارة للحدود الشمالية الإسرائيلية (مكتب عضو الكنيست دانون)

وردا على سؤال حول تهديد الرئيس بايدن بوقف الأسلحة عن إسرائيل وما هو الخط الأحمر لدى بايدن؟ أجاب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن -الذي قال حين زار إسرائيل في الأيام الأولى من الحرب إنه جاء بوصفه يهوديا وليس وزيرا لخارجية أميركا- وذلك في أثناء العملية العسكرية الحالية على رفح: “عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإننا لا نتحدثُ عن الخطوط الحمراء هنا”.

مثل هذه التصريحات القادمة من مختلف الساسة الأميركيين من جمهوريين وديمقراطيين، دفعت بعض المفكرين للتذكير بالأجواء التي صاحبت أزمنة الحروب الصليبية في العصور الوسطى واتفاق الجميع على هدف واحد؛ لقد شُنّت الحروب الصليبية الأولى حين أعلن البابا أوربان الثاني عَن إطلاق “حرب مقدسة” في مجمع كليرمونت بجنوب فرنسا عام 1099م لتخليص الأراضي المقدسة التي شهدت ميلاد المسيح ورسالته من المسلمين “البرابرة”، ووعدهم بالفلاح والغفران في الدنيا والآخرة. وبالفعل انطلقت هذه الحملات، وأُنشئت إمارات صليبية ظلت باقية قرنين تُنزِف وتُضعِف جسد الشرق الإسلامي من داخله، ولم يتم القضاء عليها إلا بعد حرب تحرير طويلة بدأها السلاجقة والزنكيون وختمها صلاح الدين والمماليك.

تشير عدد من المصادر الأكاديمية التاريخية، أن العقل الإستراتيجي الغربي أراد تلافي الخطأ الذي وقعوا فيه زمن الحروب الصليبية؛ فعملوا على أخذ العبرة من ذلك العهد، ورأوا أن تأسيس كيان وظيفي في فلسطين لن يؤدّي إلى شرذمة وتفتيت العالم العربي فقط، بل سيضمن استمرار أهداف الحروب الصليبية “الجديدة” حيّة، وتكون إسرائيل في طليعتها، والغرب من خلفها يمدّها بالسلاح والعتاد والقوة والمال والتخطيط لتحقيق نبوءات توراتية ومصالح اقتصادية وإستراتيجية ضخمة.

في مقاله “هل تسير إسرائيل على خُطى الصليبيين؟” يرصد الصحفي البريطاني ديفيد هيرست وجود تشابه بين الجانبين؛ فإن الصليبيين الذين احتلوا المشرق الإسلامي كوّنوا إمارات صليبية وظيفية في الشرق الأوسط كانت تتلقى مددها من خلال حملات وتبرعات الملوك والفرسان والبارونات الأوروبيين القادمين إلى شواطئ المتوسط، كما تتلقى إسرائيل اليوم دعمًا لا محدودًا من الولايات المتحدة الأمريكية سلاحا ومالا.

ولكن رغم ذلك، ينتاب الإسرائيليين ما يصفه المؤرخ الإسرائيلي ديفيد أوخانا بـمتلازمة “القلق الصليبي”، فإن مآلهم قد يفضي في النهاية إلى مآل “أسلافهم الصليبيين” بحسب وصفه الذي ينقله هيرست، ولهذا السبب تولي إسرائيل أهمية بالغة لـ”العصر الصليبي” وتُنفق بسخاء على الباحثين ومراكز الأبحاث التي تتناول هذا العصر لأخذ العبرة منه، ومعرفة الاختلافات الجوهرية ودراستها، وتلافي أخطائه حتى لا يصبح المصير واحدًا.

على أن كلا من المشروع الصليبي القديم والصهيوني الحديث قد انطلق من أُسس فكرية صلبة؛ جسّدها قديما “باباوات روما” حين أعلنوا عن انطلاق “الحرب المقدسة” ضد المسلمين الذين انتزعوا الأرض المقدسة، وانطلقت في القرون الثلاثة الأخيرة من قِبل نخبة ثقافية غربية درست الشرق وتخصصت فيه.

ومن قبل هيرست بعقدين كاملين وفي موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية” يرصد عبد الوهاب المسيري في المجلد السادس أوجه الشبه بين المشروعين الصهيوني والصليبي، ويرى أن كليهما ينطلق من هدف واحد وهو الاستيلاء على فلسطين من أجل المصالح الغربية التي جسّدها الصهاينة في العصر الحديث باعتبارهم “جماعة وظيفية” تخدم الأجندة الإمبريالية الدينية والسياسية، يقول: “من نقاط التشابه أن المشروعين الفرنجي والصهيوني مشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي، فالمشروع الفرنجي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي ولذا لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي، وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل”.

"اليهود واليهودية والصهيونية" عبد الوهاب المسيري
(الجزيرة)

استشراق متحيز

في عام 1956م قام الدكتور مصطفى السباعي مؤسس كلية الشريعة في جامعة دمشق بزيارة الجامعات الأوروبية ليلتقي بهؤلاء المستشرقين الذين أسّسوا للشرق الأوسط المعاصر، فهُم الطليعة القائدة للسياسي والعسكري الغربي كما كان يراهم السباعي وأبو فهر محمود شاكر وغيرهما من أساطين الثقافة والنهضة المسلمين في القرن العشرين.

وكما نقرأ في كتاب مصطفى السباعي “الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم” نراه يلتقي في رحلته تلك المستشرق أندرسون رئيس قسم الأحوال الشخصية في جامعة لندن وقتذاك، وكان من ضباط أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية، ففي القاهرة تعلَّم أندرسون العربية، وكان يزور الجامع الأزهر، ويلتقي بأحمد أمين وطه حسين ليتلقفَ منهما ماهية الإسلام ومباحثه، فضلا عن شيوخه من كبار المستشرقين الذين تعلّم على أيديهم.

ورغم هذه الخبرة العلمية والعملية لم يكن أندرسون -في نظر السباعي- إلا رجلا شديد التعصّب ضد الإسلام، فقد حكى أندرسون للسباعي سماعًا منه في مكتبه أنه أسقط طالبًا أزهريًّا في المراحل النهائية للدكتوراة في التشريع الإسلامي من جامعة لندن؛ لأنه قدّم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام، وقد برهن فيها على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة الأمر الذي لم يُعجب أندرسون، يقول السباعي: “فعجبتُ من ذلك وسألتُ هذا المستشرق: وكيف أسقطتَه ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب؟ قال: لأنه كان يقول الإسلام يمنح المرأة كذا والإسلام قرر للمرأة كذا، فهل هو ناطق رسمي باسم الإسلام؟ هل هو أبو حنيفة أو الشافعي حتى يقول هذا الكلام ويتكلم باسم الإسلام، إن آراءه في حقوق المرأة لم ينصّ عليها فقهاء الإسلام الأقدمون، فهذا رجل مغرور بنفسه حين ادّعى أنه يفهم الإسلام أكثرَ مما فهمه أبو حنيفة والشافعي”.

ويزداد تعجّب السباعي من جهل هذا المستشرق والمتخصص المطبق بالإسلام وتكريمه الحقيقي للمرأة. متى كان ذلك؟! كان في عام 1956م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجلاء الإنجليز عمّا يُعرف بـ”الشرق الأوسط”، ودخول بلداننا حقبة الاستقلال، وانتقال الاستشراق إلى مراحل جديدة من التطور والنضج كما يُفترَض.

كتاب مصطفى السباعي "الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم"
(الجزيرة)

وبعد عَقدين من ظهور كتاب مصطفى السباعي صدر كتاب “الاستشراق” للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، وإدوارد لم يكن مسلمًا ولا متحاملًا على الغرب كما قد يُـتّهم “الشيخ السباعي”، فهو رجل من داخل المطبخ الأكاديمي الغربي والأميركي خاصة، عاش بينهم، وهضم تراثهم الفكري والاستشراقي كله، حتى وضع يده على المنطلقات التي جعلت هذا الغرب يصنع صورة متخيّلة للشرقي تتراوح بين الرومانسية والنوستالجيا أحيانًا، وبين التبشيرية والتعصب والبحث عن الهيمنة أحيانا أخرى.

لقد أكد إدوارد سعيد مرارًا أن الاستشراق “أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يُسمّى “الشرق” وبين ما يُسمّى في معظم الأحيان “الغرب”، وهكذا فإن عددًا بالغ الكثرة من الكُتّاب من بينهم شعراء وروائيون وفلاسفة وأصحاب نظريات سياسية واقتصاديون ومديرون إمبرياليون قد قبلوا التمييز الأساسي بين الشرق والغرب “باعتباره نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصّلة وإنشاء ملاحم وكتابة روايات وأوصاف اجتماعية ودراسات سياسية عن الشرق، وعن أهله وعاداته وعقله ومصيره وهلمّ جرّا”.

باختصار كان الاستشراق علما يُجسّد “مؤسسة” جماعية من الأوروبيين ولا سيما البريطانيين والفرنسيين للتعامل مع الشرق، والتحدث عنه، واعتماد آراء معيّنة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه، باختصار كما يقول إدوارد سعيد: “الاستشراق أسلوب غربيّ للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلّط عليه”.

هذه المنطلقات الفكرية لم يكن ظهورها مفاجأة في العصور الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا، بل هي خبرة متراكمة منذ التقى المسلمون بالروم في مؤتة وتبوك والفتوحات الإسلامية الأولى ثم ظهور عصر الحروب الصليبية ثم موجة “الاستعمار” الغربي الحديثة، وأخيرا ما يمكن وصفه بحروب “ما بعد الحداثة” التي شهدت تارة انقلابات عسكرية مباشرة أو ناعمة.

في كتابهما “الهاجريون؛ دراسة في المراحل التكوينية للإسلام” الذي صدر بعد كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد بعام واحد، تصر بتريشيا كرون ومايكل كوك على ترديد المقولات القديمة التي تتخذ من الإسلام تحيزات مسبقة تعتبره مُنطلقا في كلياته وأصوله من العَبرانية والمسيحية والثقافات المحلية في الجزيرة العربية، فتُصر على أن “الحضارة الإٍسلامية هي النتاج لغزو بربري لأراض ذات تقاليد ثقافية قديمة جدًّا”. وإذا عدنا إلى بدايات هذه الأفكار مع وليم موير وهو أحد منظّري الاستشراق البريطاني في القرن التاسع عشر، فسنجد أنه يصر على ترديد ذات الفكرة بصياغة أخرى؛ فـ”سيف محمد والقرآن هما أعند أعداء الحضارة والحرية والحقيقة الذين عرفهم العالم حتى اليوم”.

كتاب "الهاجريون؛ دراسة في المراحل التكوينية للإسلام" لبتريشيا كرون ومايكل كوك
(الجزيرة)

أمام هذه الموجة من انتقاد الاستشراق، يقف برنارد لويس في كتابه “التاريخ؛ استذكاره واستعادته واختلاقه” مدافعًا عن جمهرة المستشرقين، ومنتقدًا الرواية القائلة بأنهم كانوا العصبة الأولى التي وطّأت الطريق للإمبريالية والاستعمار، يعتبر لويس هذا الاتهام “سخيفًا”؛ لأن كثيرا من هؤلاء المستشرقين انتقدوا بلدانهم وفككوا النظريات المعرفية والروايات التاريخية التي كان يتم تدريسها للطلبة “الرعايا” ممن احتُلّت أراضيهم أو الطلبة “المواطنين”.

ولكنه يعود فيُقر بهذه الحقيقة في كتابه ذاته حين يضرب أمثلة من الكتابات التاريخية المدرسية وغير المدرسية التي كان كانت تخضع لإشراف الإمبريالية الغربية وكان كما يقول: “غرضها واحد، وهو تشويه الأنظمة التي كانت موجودة قبل مجيء الإمبراطورية (الاحتلال الغربي أو الروسي) وتصوير حكمها على أنه بربري واستبدادي، مما يبرر غزو الحكم الإمبراطوري والحفاظ عليه”.

 

أبناء الاستشراق

كانت هذه المقولات القديمة والحديثة قابعة خلف السياسة الخارجية للبريطانيين والفرنسيين والروس والهولنديين ثم الأميركان فيما بعد؛ وقد أدركت الآلة السياسة والعسكرية الغربية محورية الدين/الإسلام في العلاقة مع الشرق، وأنه العقبة الكأداء التي لا يستطيعون تجاوزها في الهيمنة المطلقة.

وهذا ما اقتنع به نابليون بونابرت قبل وبعد الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م مستشهدًا أيضًا بالآلة الاستشراقية الفرنسية التي كوّنت خبرة على مدار السنين، فقد كتب في مذكراته قائلا: “يُعتبر الإسكندر المقدوني من أفضل رجال السياسة الذين درسوا عقلية الشعب المصري، فالدين -في نظرنا- هو العقبة الأساسية أمام إقامة سلطة فرنسية”، ومن أجل احتلال مصر قال المستشرق فرنسوا فولني عام 1788م، لا بد من خوض ثلاث حروب؛ الأولى ضد إنجلترا، والثانية ضد الباب العالي، ولكن الثالثة -وهي أصعب مما عداها- ضد المسلمين الذين يُكوّنون سكان البلاد، وسوف تؤدّي الحرب الثالثة إلى خسائر كثيرة، ويُمكن اعتبارها عقبة لا يُمكن التغلّب عليها”.

مشهد لجنود بريطانيين من كتاب "يوميات الإسكندرية 1882" (مواقع إلكترونية)
استغل البريطانيون الضعف العثماني، والديون التي غرق فيها الخديو إسماعيل في مصر فوطئت أقدامهم البلاد في سبتمبر/أيلول 1882م (مواقع التواصل)

وكما دخل الإسكندر المقدوني مصر وانطلق إلى معبد آمون في واحة سيوة لتوقير آلهة المصريين القدماء، وإعلان كهنة ذلك المعبد أنه ابن إلهٍ، الأمر الذي أصبح مسوّغا لقبول المصريين للمقدونيين البطالمة في البلاد، وتأسيس حكمهم؛ جاء نابليون مصر أيضًا بنفس الخديعة حين أظهر احترامًا مبالغًا فيه للإسلام، والتقرب من أهله بل ومدّعيا إسلامه، ومُنشئًا الديوان أو الحكومة المحلية التي جمع فيها عددًا من أعيان وشيوخ مصر.

كان دخول الفرنسيين مصر -وفقًا لدعايتهم آنئذ- تأديبًا للمماليك وردعًا لهم، وإقامة للعدل والحرية والمساواة وربما “الديمقراطية”، من يعرف؟! يقول نابليون في منشوره الأول للمصريين في يوليو/تموز 1798م كما يذكره الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه: “فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حَكَم على انقضاء دولتهم (المماليك والعثمانيين) يا أيها المصريون قد قيل لكم: إنني ما نزلتُ بهذا الطّريق إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمتُ إليكم إلا لأخلّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبدُ الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب”.

يشبه خطاب نابليون الأول للشعب المصري، ذلك الخطاب الذي ألقاه جورج بوش الابن في مارس/آذار عام 2003م حين أعلن عن إسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وانطلاق العملية العسكرية الأميركية على العراق، إذ خرج أثناء إلقاء القنابل والصواريخ وهو يقول: “بدأت القوات الأميركية وقوات التحالف في هذه الساعة المراحل الأولية للعمليات العسكرية لنزع أسلحة العراق، ولتحرير شعبه، ولحماية العالم مِن خطر قاتم محدق… نأتي إلى العراق والاحترام يحدونا لمواطنيه ولحضارته العظيمة ولمعتقداته الدينية التي يمارسونها، ليست لدينا أي مطامع في العراق سوى أن نُزيل التهديد ونعيد السيطرة على تلك الدولة إلى شعبها”.

حين فشلت الحملة الفرنسية على مصر، وتضافرت العوامل الثلاثة التي حذّر منها المستشرقون نابليون، وهي اتحاد العثمانيين والإنجليز في الخارج، وثورات المصريين في الداخل اضطر الفرنسيون إلى الانسحاب يجرون أذيال الخيبة والفشل، وقد أدرك الإنجليز منذ ذلك الحين خطورة وحدة الأقطار العربية، فلعبوا كعادتهم على العثمانيين تارة بالتقرب منهم وإرهابهم بخطر الفرنسيين، وتارة أخرى بالتقرب من محمد علي باشا في مصر ودفعه للسيطرة على بلاد الشام.

حتى إذا اصطدم الجانبان، استغل البريطانيون الضعف العثماني، والديون التي غرق فيها الخديو إسماعيل في مصر فوطئت أقدامهم البلاد في سبتمبر/أيلول 1882م، بعد تدمير الإسكندرية والفتك بالجيش المصري في معركة التل الكبير، وإعادة السيطرة على المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية في مصر، ويمكننا أن نرى هذه الحقائق في تقرير اللورد دوفرين بعد أشهر من الاحتلال في عام 1883م.

فقد جاء في هذا التقرير أن من يسيطر على المالية والجيش والشرطة يسيطر على مصر، وأنه لا يمكن المحافظة على النظام العام في مصر إلا بردع المصريين وتخويفهم من خلال رجل قوي من الأجانب يعاونه “السوط الوطني”، وكان ذلك الرجل الأجنبي القوي الذي اقتنعت به لندن وكيلا لها، ويدها التي تدير بها المشهد في مصر بعد الاحتلال هو اللورد كرومر.

مصر الحديثة (اللورد كرومر)
(الجزيرة)

إذا تأملنا المذكرات التي كتبها كرومر عن “مصر الحديثة” فسيأخذنا ذلك على الفور إلى محاولة فهمه الشخصية المصرية وكيفية سيطرة “الإداري والسياسي والعسكري الإنجليزي” على هذه الشخصية؛ إذ رأى أن أهم العقبات التي يجب على الإنجليزي إدراكها وتخطيها هو فهم الإسلام ذاته، يقتنع كرومر برأي المستشرق البريطاني ستانلي لين بول حين يقول: “الإسلام كدين يُعدّ شيئًا عظيمًا، فلقد علّم الناس عبادة إله واحد، وعبادة خالصة بعد أن كانوا يعبدون آلهة كثيرة، ولكن الإسلام كنظام اجتماعي يُعدّ فاشلا فشلا ذريعًا”.

تناول كرومر ما رآه “أسباب فشل الإسلام كنظام اجتماعي” في زعمه بروح صليبية واستشراقية خالصة، فرآه دينًا يُحقر من شأن المرأة – كزعم المستشرق أندرسون مع الشيخ مصطفى السباعي أعلاه- ثم راح ينتقد أحكام الشريعة الإسلامية في العقوبات، والتعصب الذي يسمُ به هذا الدين، ويعتبر الاختلافات المذهبية نقمة، بل وفوق ذلك رأَى أن تاريخ الإسلام لا يختلف في شيء عن تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية، باختصار كما يزعم: “سيجد الرجل الإنجليزي عند تعامله مع أمور الحياة الإدارية العملية في مصر أن هذه الروح غير المتسامحة -على الرغم من عدم إفصاحها عن نفسها بالكلام أو الفعل- تُعدّ عقبة أمام المصلح”، وهو يقصد بالمصلح هنا السيد البريطاني الذي جاء بروح مسيحية بروتستانتية خالصة لإخراج المصريين من هذه “الروح المتعصبة” التي لا يعبرون عنها بالكلام أو الفعل باعترافه!

 

العصر الإمبريالي

ولئن انطلقت الروح الاستشراقية الصليبية منذ عهود نابليون إلى كرومر، وأسست للفعل الاستعماري المعاصر بسقوط الأقطار العربية والإسلامية، فإن مراحل ما بعد الاستقلال وحتى القرن الواحد والعشرين لا تزال تخضع لهذه الروح المتجذرة في العقل الفكري والإستراتيجي الغربي. ويرصد برنارد لويس “المفكر الصهيوني” الأميركي البريطاني في كتابه الآخر “أزمة الإسلام” تغلغل هذا الخطاب في العقل السياسي الغربي المعاصر بضرب أمثلة سريعة، ففي 8 أكتوبر/تشرين الأول 2002م استدعى رئيس وزراء فرنسا جان بيير رافارين في كلمة له في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) صلاح الدين الأيوبي وكيف تمكن من إلحاق الهزيمة بالصليبيين في الجليل و”تحرير” القدس.

French former Prime Minister Jean-Pierre Raffarin during a tribute ceremony for the 50th anniversary of Valery Giscard d'Estaing election in Paris, France on May 13, 2024.
جان بيير رافارين (شترستوك)

يندهش برنارد لويس من وصف رئيس الوزراء الفرنسي لفعل صلاح الدين بـ”تحرير القدس”، فهذا وصف طبيعي بين العرب والمسلمين، لكن خروجه من قلب الغرب الأوروبي ولا سيما فرنسا ربما يكون “انعكاسًا لتحالفات اليوم أو الخيار الآخر؛ تصويبًا سياسيًّا متطرّفًا. قد تُعزى هذه الصياغة -في بلد آخر- إلى الجهل بالتاريخ، أما في فرنسا فلا”، على حد وصفه.

هذا التعليق من لويس وهو مَن هو في العقل الإستراتيجي الأميركي دليل على تأثيرات الحقبة الصليبية والاستشراقية في عقل المخطط الإستراتيجي الغربي اليوم، فلا يزال خطاب “الهيمنة على الشرق” بتجلياته المختلفة التي اتخذت اليوم طابع دراسة “المناطق” أو محاربة “الإرهاب” وفقا للرؤية الأميركية “للشرق الأوسط” حاضرًا بقوة.

بل إن حضور ميراث زمن الحروب الصليبية في “العصر الإمبريالي” لم يخفِه لويس فهو يعترف بأن ما يصفه بـ”الفاعليات” الأوروبية في أراضي المسلمين قد مرّت بمراحل عدة أولها التوسع التجاري وهي حقبة استغلال الخامات والبضائع الشرقية، ثم جاءت مرحلة الغزو والاحتلال المسلحين “اللذين تمكنت بهما القوى الأوروبية من تأسيس هيمنة مؤثرة على أجزاء من العالم الإسلامي؛ لقد رأينا الروس في القوقاز وآسيا الوسطى، والبريطانيين والألمان في ماليزيا وإندونيسيا، وفي المرحلة الأخيرة البريطانيين والفرنسيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.

يمكننا مما سبق أن نرى بجلاء الروح الصليبية في العصور الإمبريالية وعصرنا الحالي، ففي القرن التاسع عشر والعشرين حمل الإمبريالي الغازي روح الأيديولوجيا الصليبية في احتلال الأقطار الإسلامية وفتح الطريق أمام التبشير في مجتمع مسلم، والحديث عن “الأزمة الاجتماعية والحضارية” في الإسلام كما رأينا مع اللورد كرومر ووليم موير وغيرهما، وكذا الاستغلال الاقتصادي الجائر لثروات الشعوب المحتلة تماما كما كان يقوم به الصليبي القديم.

وفي عصرنا الحاضر نرى إسرائيل مشروعًا تكثَّفت فيه جميع القيم الأخلاقية والسياسية التي جاءت بها الحملة الصليبية القديمة، من جرائم الفصل العنصري، والمذابح الجماعية للفلسطينيين، والنكبة ونهب الأراضي والثروات، واستمداده العتاد والمال والقوة والتكنولوجيا من الخارج، تماما كما استمدّ الصليبيون في أوقات أزماتهم العون من ريتشارد قلب الأسد وفيليب أُوغست وفردريك الثاني وغيرهم.



اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading