دروس فيتنام العسكرية.. كيف نفهم النصر والهزيمة في حرب غزة؟ | سياسة
الجزيرة نت

دروس فيتنام العسكرية.. كيف نفهم النصر والهزيمة في حرب غزة؟ | سياسة


لم تكن درجات الحرارة مرتفعة كثيرا في مثل ذلك الوقت من العام، لكن سخونة الأحداث ورطوبة الهواء وقيظ الأسفلت في مدرج مطار غيا لام، على الضفة الشرقية للنهر الأحمر الذي يقطع مدينة هانوي، عاصمة فيتنام الشمالية، جعلت “الربيع الفيتنامي العظيم” نهاية أبريل/نيسان عام ١٩٧٥ صيفا حارا.

كان هناك مكانان قريبان يضجان بالعواصف: قلب بحر جنوب الصين والهند على بعد ساعتين، وعقل العقيد الأميركي هاري سمرز على بعد خطوتين، الموجود في المطار ضمن زيارته الثانية لفيتنام بوصفه رئيسًا للوفد التفاوضي الأميركي في “الفريق العسكري المشترك الرباعي” المشكل من أطراف حرب فيتنام الطويلة الأربعة: فيتنام الشمالية، وفيتنام الجنوبية، والفيت كونغ، والولايات المتحدة.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

“خاوة”.. العالم كما يراه يحيى السنوار

list 2 of 2

الطوفان والنبوءة والساعة … مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!

end of list

لم يكن سمرز قلقا إثر مقتل مساعدته الشخصية قبل ثلاثة أسابيع بإحدى عمليات “انتشال الأطفال” الفيتناميين، إذ كان العسكري المخضرم، الذي يقاتل على الجبهات منذ أن كان عمره خمسة عشر عاما قبل ما يقارب ثلاثة عقود، مضطربا لأسباب أكبر وأقدم.

في الخامس والعشرين من أبريل/نيسان، وقف سمرز في المدرج العسكري عاجزا عن تصديق كيف انتهت العملية العسكرية الأميركية الهائلة التي بدأت قبل عقد تقريبا، بمشاركة أكثر من مليونين ونصف من الجنود الأميركيين المسلحين بكل ما يمكن استخدامه من أسلحة، بتكلفة تقدر اليوم بترليون دولار تقريبا، أدت خلالها واشنطن لوجستيا وتكتيكيا بأفضل ما يمكن، وانتصرت في كل معركة ميدانية؛ كيف انتهت بهزيمة الأميركيين في الحرب؟

خرجت أفكار العقيد الأميركي عن سيطرته، فتوجه إلى نظيره الفيتنامي الشمالي الذي يسميه “العقيد تو”، والذي كان على الأرجح هوانغ آن توان “ذا العين الواحدة” إثر فقدانه عينه بقنبلة بإحدى المعارك قبل ثلاثين عاما من ذلك اليوم، قائلا له: “أنت تعلم أنكم لم تهزمونا أبدا في الميدان”. رمق العقيد الفيتنامي خصمه بعينه الباقية، وأخذ دقيقة قبل أن يجيبه بإنجليزيته المتواضعة: “ربما، لكن هذا خارج الموضوع”.

بعد هذه الحادثة العرضية بأسبوع واحد فقط غادر سمرز وجنود بلاده فيتنام إلى الأبد، لكنها بقيت في ذهنه وذاكرته طويلا، فقد كان يحب أن يروي أحداثها لطلابه بعد أن أخذ -وربما كان ذلك بسببها- مسارا أكاديميا ونظريا تحول به إلى مؤرخ وكاتب ومنظر عسكري أميركي شهير ومؤثر، كما افتتح بها أهم كتبه، عن الإستراتيجية، في مقدمة عنوانها “نصر تكتيكي وهزيمة إستراتيجية”، والذي سيصبح أحد المراجع النقدية عن حرب فيتنام، كما ستصير هذه الطرفة إحدى الحوادث المتداولة الشهيرة بين طلاب وباحثي الإستراتيجية العسكرية.

بعد تلك الحرب الفاصلة بنصف قرن تقريبا، سيستخدم وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، مطلع ديسمبر/كانون الثاني الماضي، عنوان مقدمة سمرز حرفيا، محذرا من “نصر تكتيكي وهزيمة إستراتيجية”، ولكن هذه المرة لوصف حرب تحرر أخرى لا تقل ضراوة وأهمية عن حرب فيتنام، ولا تختلف عنها في تدخل الولايات المتحدة الفاعل فيها رغم وجودها في النصف الآخر من العالم، وهي القضية الفلسطينية بآخر فصولها: “طوفان الأقصى” الذي اندلع قبل تصريح أوستن بثلاثة أشهر تقريبا، بعملية عسكرية مفاجئة أدت إلى مقتل أكثر من ١٢٠٠ إسرائيلي وأسر مئات آخرين، رد عليها الاحتلال الإسرائيلي بعدوان استشهد به عشرات آلاف الفلسطينيين، وجُرح نحو مئة ألف، وتسبب في نزوح ما يقارب مليوني فلسطيني من منازلهم، بعد تدمير البنية التحتية وأحياء بأكملها من القطاع، بزعم تحقيق أهداف معلنة، على رأسها هزيمة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، واستعادة الأسرى.

لم يكن أوستن هو الوحيد الذي استحضر حرب فيتنام لمقارنة “طوفان الأقصى”، فعلى سبيل المثال وصف السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز غزة بأنها “فيتنام جو بايدن”، ورفع متظاهرون في معهد العلوم السياسية المرموق بباريس لوحة كتبوا فيها: “غزة = فيتنام”. علاوة على ذلك، لم يكن هذا جانب التشابه الوحيد بين الحربين، فبجانب سؤال الانتصار والهزيمة، وبالتالي، جدوى المقاومة أو عدمها.

تحضر كذلك طبيعة الحرب القائمة بكونها خليطا من حرب العصابات والمدن والأنفاق والحرب النظامية، وتشابه المسارات وبعض المحطات الفارقة، وعلى رأسها عبور التيت الشبيه بـ”عبور السابع من أكتوبر”، وما رافقه من فشل استخباري، وأخيرا الآثار الدولية للحربين وأثرها في تحول الرأي العام وحشدها مظاهرات كبيرة -طلابية بشكل رئيسي- رافضة لهما؛ مما يجعلنا بالمقارنة والمقاربة قادرين على استشراف المآلات كذلك، بما تحاوله هذه المقالة الفاحصة لحدثين متشابهين قبل أي شيء في كونهما من أوضح أمثلة “الفشل الاستخباري الذريع” في التاريخ.

 

عبوران

ربيعنا اليوم أحلى من كل ربيع […] ليقلّد الشمال والجنوب بعضهم بقتال الغزاة الأميركيين! تقدموا! سننتصر!

هو تشي منّه، رئيس فيتنام الشمالية في قصيدة بثتها الإذاعة الرسمية ليلة “هجوم التيت”، ٣٠ يناير/كانون الثاني ١٩٦٨.

مجاهدونا الأبرار: هذا يومكم لتُفْهِموا هذا العدو المجرم أنه قد انتهى زمنه […] هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم.

محمد الضيف، القائد العام لـ”كتائب عز الدين القسام” في خطاب نُشر فجر “طوفان الأقصى”، ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣.

 

بينما كان ملايين الفيتناميين على جانبي الحدود الشمالية والجنوبية يحتفلون برأس السنة القمرية، الموافق منتصف ليلة ٣١ يناير/كانون الثاني من عام ١٩٦٨، في عيدهم “تيت نوين دان” المعروف اختصارا بـ”التيت”؛ اختبأ تسعة عشر رجلا في مكان مظلم ما بعاصمة فيتنام الجنوبية سايغون، مستخرجين، بدلا من الألعاب النارية والحلويات، الأسلحة والمتفجرات. لم يكن هؤلاء الرجال غير العاديين يستوحشون الظلمة، فقد تدربوا طويلا وبشكل قاسٍ، بكونهم مهندسين قتاليين، على الزحف والتحرك الصامت عبر الطين والماء تمهيدًا لهذه الليلة المنتظرة. كدّس هؤلاء الرجال أنفسهم في شاحنة وسيارة أجرة، وقبل الساعة الثالثة فجرا بقليل وصلوا إلى وجهتهم المرتقبة: مبنى السفارة الأميركية.

لم ينتظر هؤلاء الرجال، عناصر “الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام” (أو “الفيت كونغ”) المقاوِمة، طويلا قبل أن يبينوا سبب وصولهم في هذا الوقت تحديدا، فاتحين النار على الحراس الموجودين على البوابة، ثم ترجّل أحد خبراء المتفجرات لديهم وفجّر إحدى قواعد الجدار بقنبلة فتحت به فجوة بعرض متر كامل دخل خلالها قائدا المجموعة الميدانيين الذي قتلا، ، بينما اخترق البقية السفارة التي ضمت حينها ثلاثة عناصر شرطة عسكرية وستة أميركيين آخرين. وبينما كانت وكالة “الأسوشيتد برس” الأميركية تعلن خبر اقتحام السفارة خلال نصف ساعة من الحدث، وصلت التعزيزات البرية والجوية الأميركية لتحاصر عناصر الفيت كونغ الذين باتوا لا يعرفون ما الذي عليهم فعله بعد مقتل قادتهم سوى مواصلة المعركة التي استمرت ساعات، وانتهت بمقتلهم جميعا.

بعد التاسعة صباحا بقليل، وصل الجنرال ويليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام الجنوبية التي تحوي مليون عسكري، بهندامه العسكري، ليبرر الهجوم للصحفيين بأن قوات الفيت كونغ انتهكت هدنة العيد، موضحا في الوقت نفسه أن هذا الاقتحام كان جزءا من هجوم أكبر وأوسع على امتداد فيتنام الجنوبية، ومؤكدا، بالطبع، “فشل مخططات العدو وحصول بعض الأضرار السطحية لمبنى السفارة”.

كان من بين هذه “الأضرار السطحية” للهجوم نُصُب غرانيتي كبير لـ”ختم الولايات المتحدة” وُجد محطما على الأرض إثر إصابته بصاروخ للفيت كونغ، في مشهد رمزي يكثف تحطم الجهد العسكري الأميركي في فيتنام كما ستظهره الأيام والأسابيع التالية من “هجوم التيت”.

قبل اقتحام السفارة بيوم واحد، وقبل إعلان هدنة عطلة التيت منتصف الليل، بثت محطة الراديو الرسمية في هانوي، عاصمة فيتنام الشمالية، قصيدة كتبها هو تشي منه، قائد ومؤسس حركة المقاومة الفيتنامية ورئيس فيتنام الشمالية، قال فيها: “ربيعنا اليوم أحلى من كل ربيع […] ليقلّد الشمال والجنوب بعضهم بقتال الغزاة الأميركيين! تقدموا! سننتصر!”، في رسالة مشفرة لعناصر الفيت كونغ ببداية الهجوم الذي بدأ مباشرة بالتوازي فيما يقارب عشر مدن معًا، ثم بلغ ذروته في الليلة التالية بالهجوم على سايغون والسفارة الأميركية.

كانت هذه الأيام الأولى لـ”هجوم التيت” الذي استمر شهرا كاملا، وبلغ عدد المدن والبلدات التي استهدفت به أكثر من ١٠٠، شملت كل عواصم ولايات فيتنام الجنوبية تقريبا بما في ذلك سايغون عاصمة البلاد، على يد أكثر من ٧٠ إلى ٨٠ ألف مهاجم من الفيت كونغ وجيش فيتنام الشمالية، الذين اخترقوا فيتنام الجنوبية عبر “درب هو تشي منه” المحفور بشق الأنفس عبر غابات لاوس وكمبوديا المطيرة، وقتل أكثر من نصفهم خلال الهجوم، مقابل مقتل الآلاف من الجنود الأميركيين وقوات فيتنام الجنوبية، وعشرات الآلاف من المدنيين ودمار مدن بأكملها.

أخيرا، انتهى الهجوم باستعادة الولايات المتحدة وحكومة فيتنام الجنوبية سيطرتهما الهشة على البلاد، لكن الهجوم أصبح يوصف في الأدبيات الأميركية، على غرار الختم المحطّم، بأنه “نقطة التحول” و”بداية نهاية” حرب فيتنام، التي قادها هو تشي منه ضد الاستعمار الفرنسي خلال الأربعينيات والخمسينيات ثم ضد الغزو الأميركي على امتداد الستينيات، ليموت عام ١٩٦٩، قبل أن يشهد الانتصار واستقلال البلاد وتوحد فيتنام الشمالية والجنوبية بعد هجوم التيت بسبعة أعوام كاملة.

بعد قصيدة هو تشي منّه التي اخترقت “عيد التيت” بخمسة وخمسين عاما؛ وتحديدا فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٢٣، بثّ القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف كلمة مسجلّة نادرة، اخترق بها كذلك عطلة السبت وعيد “سمحات توراه” (بهجة التوراة) اليهودي، معلنا إطلاق عملية “طوفان الأقصى”، “أكبر هجمات” المقاومة على إسرائيل برا وبحرا وجوّا، وأكثرها تعقيدا بمشاركة متزامنة لعدة وحدات عسكرية، على رأسها ٣٠٠٠ مقاتل من قوات نخبة القسام، مدعومين بـ ١٥٠٠ آخرين، بعد أن قامت وحدة الهندسة بتفجير ما يقارب ٨٠ ثغرة في الأسلاك الشائكة و”الجدار الحديدي” الممتد على ما يقارب ٤٥٠ كم بارتفاع ستة أمتار وبتكلفة بناء قدرت بأكثر من مليار دولار، تحت غطاء جوي من خمسة آلاف صاروخ وقذيفة بجانب مسيّرات الرصد والاستطلاع وعناصر وحدة “صقر” الذين هبطوا من السماء للمرة الأولى على المستوطنات والوحدات العسكرية التي استطاعت وحدات المقاومة الاستخبارية رصدها ودراستها بشكل دقيق، بجانب ممارستها لما وصفه أبو عبيدة، الناطق الرسمي لكتائب القسام، بـ”الخداع الإستراتيجي” الذي أدى إلى فشل استخباري إسرائيلي هائل، كما سيظهر تاليا.

وفي مشهد استثنائي، توزعت عمليات اليوم الأول من “طوفان الأقصى” على المستوطنات والقواعد العسكرية المحيطة بقطاع غزة، واستطاعت السيطرة على بعضها بشكل كامل، أبرزها قاعدة رعيم العسكرية مقر قيادة فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي، وقتلت وأسرت بها المئات من الجنود والمستوطنين، بينما كانت الصواريخ تستهدف مناطق أبعد على امتداد فلسطين، من بئر السبع جنوبا إلى تل أبيب شمالا؛ مما أدى إلى إغلاق المطارات المحلية كاملة وإلغاء عشرات الرحلات الجوية إلى مطار بن غوريون، ليعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت “حالة الحرب”، في حين كانت إسرائيل بأكملها، “حكومة وجيشا وشعبا، بحالة صدمة كبيرة”.

نهاية الستينيات، كان هجوم التيت مقامرة، بل ومقامرة يائسة، من “منّه” الذي كان يسعى بالهجوم لتجاوز فارق القوة الهائل بينه وبين الولايات المتحدة، آملًا أن الهجمات ستشعل انتفاضة بين الفيتناميين الجنوبيين الذين سينضم عشرات الآلاف منهم للهجوم، وهي مقاربة تذكر بشكل ما بمقاربة القسام كما تظهر في خطاب الضيف، ويتردد صداها في خطابات أبي عبيدة وقادة حماس، بدعوة الجماهير إلى المشاركة في الطوفان بحسب موقعها وقدرتها.

حين فشل “التيت”، لم يكن الفيتناميون الشماليون والفيت كونغ يملكون الموارد ليحافظوا على السيطرة على المدن التي سيطروا عليها، ففشلوا في المخطط عسكريا، لكنهم في النهاية حققوا الغاية السياسية المرجوة بعد ذلك بأعوام، بالدرجة الرئيسية بفضل “الصدمة” التي أدت إلى تغيير السياسة الأميركية؛ إذ انتصرت الولايات المتحدة بالهجوم، لكنها هُزمت سياسيا حين أدرك الأميركيون أن عدوهم ما زال قادرا على شن هجمات كبيرة بهذا الحجم، وأن بلادهم أبعد ما تكون عن الانتصار؛ مما دفعهم إلى بدء مفاوضات الانسحاب في باريس بعد الهجوم بأشهر قليلة فقط، وهي صدمة يرجع السبب فيها، في كلا العبورين، إلى الفشل الاستخباري الذي عجز عن توقعهما أو التعامل معهما.

 

الفشل الاستخباراتي

 

[هجوم التيت] هو أحد أوضح نماذج الفشل الاستخباري في التاريخ الأميركي.

جيمس ويرتز، أستاذ شؤون الأمن القومي ومؤلف كتاب هجوم التيت: الفشل الاستخباري في الحرب

درست الكثير حول تاريخ الفشل الاستخباري، ونشرت كتبا عن ذلك، لكنني لا أعرف فشلا أشد [من هجوم السابع من أكتوبر]، على الأقل في تاريخ الاستخبارات الحديث منذ عام ١٩٣٩.

أوري بار-جوزيف، أستاذ العلاقات الدولية الفخري في جامعة حيفا ومؤلف كتاب النجاح والفشل الاستخباري: العامل البشري

اليوم هو الجمعة، السادس من أكتوبر/تشرين الأول من عام ٢٠٢٣، وعقارب الساعة تشير إلى ما بعد الحادية عشرة مساء بقليل. كل شيء كعادته في غرفة عمليات “فرقة غزة” المتاخمة للقطاع. فجأة، كسرت صرخة إحدى عناصر المخابرات العسكرية الهدوء الذي يسبق العاصفة -أو الطوفان بالأحرى- حاملة اسما مألوفا لكل الموجودين في الغرفة: “علي القاضي يتصرف بشكل غريب!”، بعد أن رصدت جنديات بجيش الاحتلال الإسرائيلي قوات نخبة القسام وهو يستعد لشن غارته.

صعدت المعلومة بحسب التسلسل القيادي إلى أن وصلت إلى قائد الاستخبارات في الفرقة، ليوجه أوامره: “كل شيء على حاله. هذا مجرد تدريب اعتيادي”. لم يستغرق الأمر كثيرا ليكتشف مسؤول الاستخبارات تكلفة قراره الخاطئ: بعد ذلك بثمان ساعات، ظهر القاضي ورفاقه على كاميرا المراقبة الوحيدة التي ظلت تعمل بعد أن أبطلوا بقية الكاميرات أثناء حصارهم للفرقة، وأخذوا العديد من عناصرها وقياداتها بين قتيل وأسير.

عمليّا وكما سيتضح خلال الساعات التالية، كان هجوم القاضي هو الجولة الأولى من هجوم منسق بشكل مدهش؛ مما يعني كونه مخططا له ومدرّبا عليه لأكثر من سنة على الأقل، زعمت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية أنها استطاعت الحصول على تفاصيله في وثيقة من أربعين صفحة، تحدد المواقع المستهدفة وحجمها والخطوات المتبعة لاستهدافها دون تحديد لوقت أو تاريخ الهجوم، مفجرة مفاجأة قالت بها إن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يملكون أيضا هذه الوثيقة قبل “الطوفان” بأكثر من عام، تحت الاسم الرمزي “جدار أريحا”، لكنهم اعتبروها مبالغا فيها وغير قابلة للتنفيذ عمليا ولذا فقد تجاهلوها، في مسار أدى بالمحصلة إلى فشل كل من نظامي إسرائيل: العسكري كما اعترف به تحقيق داخلي صدر حديثا عن جيش الاحتلال، والاستخباري متمثلا باستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون حاليفا اعترافا بفشله في منع وقوع “الطوفان”.

للمفارقة، لا يختلف موقف الإسرائيليين كثيرا عن موقف الأميركيين والفيتناميين الجنوبيين الذين كانوا، بدءًا من سبتمبر/أيلول ١٩٦٧، أي قبل الهجوم بفترة كذلك، يقرؤون ويسمعون عن ملامح خطة وزير دفاع فيتنام الشمالية الجنرال الشهير “فون نجوين غياب” بشن هجوم كبير على فيتنام الجنوبية بعد أن أقرّها “المكتب السياسي” لفيتنام الشمالية في يوليو/تموز الأسبق، التي نُشرت بعد ذلك في كتاب نصر كبير، مهمة عظيمة: تقييم وزير الدفاع لمسار الحرب.

ببساطة، قرر الأميركيون تجاهل هذه المعلومات -رغم امتلاكهم إياها- لأنها تختلف عن تصوراتهم ورؤاهم لطبيعة وواقع الحرب في فيتنام، إذ كانوا يعتبرون أنها تسير نحو الانتصار الأميركي الحاسم، كما أكد ويستمورلاند للرئيس الأميركي حينها ليندون جونسون بعد أن استدعاه إلى واشنطن بحثا عن مزيد من الدعم الشعبي، رغم أن تلك الفترة شهدت عدة مؤشرات عسكرية -كحصول مزيد من التحركات على “درب هو تشي منه”- بل وحصول القوات الأميركية على عدة مذكرات ومخططات تتحدث عن “حملة الشتاء -الربيع” أو “المهمة الجديدة” التي يستعد لها مقاتلو جيش فيتنام الشمالي والفيت كونغ، كما يرصدها جيمس ويلبانكس، المؤرخ العسكري والضابط السابق المشارك في حرب فيتنام، في كتابه هجوم التيت: تاريخ موجز.

رغم أن كلتا الحالتين تشتركان في غياب توقيت محدد للهجوم، وبممارسة “خداع/ تضليل إستراتيجي”، تمثل في الطوفان بإيصال تصور بأن حماس لم تعد تريد القتال في حين كانت تدرب مقاتليها وعناصرها، وفي “التيت” بشن هجمات على المواقع الحدودية لسحب التركيز والاهتمام عن الأهداف في قلب المدن؛ يظل السؤال الملّح: ما دامت المعلومات موجودة بأن هناك هجوما كبيرا قادما، لماذا وكيف تقع المفاجأة؟

عقب الطوفان ببضعة أيام فقط، نشرت آمي زيغارت، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد والباحثة المختصة بالاستخبارات الأميركية، مقالا في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية حاول إجابة هذا السؤال وتناول “كارثة إسرائيل الاستخبارية”، قالت فيه إن الهجمات المفاجئة جميعا -من هجوم اليابان على “بيرل هاربر” مرورا بـ”التيت” ونكسة عام ١٩٦٧ إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر والحرب الروسية الأوكرانية- تشترك في أمرين اثنين هما: أنها أحداث كبيرة لها ما بعدها على المدى الطويل، وهي في الحقيقة ليست مفاجآت، فدائما -بعد فوات الأوان- يظهر أن هناك تحذيرات على طول الطريق، لتعيد صياغة السؤال بشكل أدق فيصبح: لماذا يتم تجاهل هذه المعلومات؟

طُرح الكثير من الإجابات، ورد أكثرها إيجازا في مقابلة أجريت في المجلة نفسها مع مارتين إنديك، السفير الأميركي السابق في إسرائيل والمسؤول السابق لشؤون الشرق الأدنى في مجلس الأمن القومي الأميركي، قال فيه إن هذا الفشل مردّه “الغطرسة”، وهو يتفق مع الإجابات الأكثر عمقا واستفاضة، التي كان منها تحقيق مطوّل لصحيفة هآرتس ردّ جذور هذا الفشل إلى “الازدراء والإنكار والتجاهل”، انطلاقا من فكرة رئيسية مفادها أن حماس لا تملك فرصة لشن هجوم بري على إسرائيل ويقتصر هجومها على الصواريخ البعيدة المدى، وهو تصور دخل حيز التنفيذ تماما في ٢١ مايو/أيار ٢٠٢١، مع وقف إطلاق النار عقب “معركة سيف القدس”، وتبلور بمقالة عنوانها “نفي الصواريخ”.

إذ أكد ضباط استخبارات إسرائيليون أن جيش الاحتلال توقف بعد تلك الحرب عن جمع الاستخبارات عن قياديي حماس، انطلاقا من ثلاث فرضيات: عجز حماس عن دخول إسرائيل من تحت الأرض، وعدم قدرتها على اختراق “الجدار الحديدي” الذي تلقى ٤٤ ثغرة في “طوفان الأقصى”، وقدرة إسرائيل على ضرب شبكة الأنفاق التي ما زالت “تعمل جيدا” باعتراف جيش الاحتلال نفسه بعد أكثر من تسعة أشهر من الحرب.

أوجدت هذه الافتراضات ما أسمته هآرتس “جدارا حصينا من الإنكار”، جعل المخابرات العسكرية أو جيش الاحتلال يتجاهل التحذيرات التي كان يتلقاها من داخله، كما كشفت رسائل إلكترونية مسربة من الوحدة ٨٢٠٠ المختصة بالاستخبارات السيبرانية، أو من جهات أخرى كتحذيرات المخابرات المصرية أو الأميركية للاحتلال بأن “شيئا كبيرا” يجري، في خلل استخباري يوصف باسم “انحياز التأكيد” الذي يدفع المحللين إلى التقليل أو تجاهل الأدلة التي تعارض حكما سابقا، من أجل تأكيد تصورات وأحكام محددة سلفا، وهو فشل يمتد من ممارسي الاستخبارات إلى متخذي السياسات، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو -بكلمات العميد الإسرائيلي المتقاعد والرئيس السابق للموساد أمنون سوفرين- على كل المستويات، من المستوى الإستراتيجي إلى المستوى التكتيكي، ليشمل تقييمات خاطئة على عدة مستويات: تقييم قدرات حماس، وتقييم نياتها، والمبالغة في تقييم القدرات الإسرائيلية، والاعتماد المبالغ فيه على التقنية، والعجز عن التعامل مع التحذيرات أو رفض ذلك.

لا يختلف هذا كثيرا عن حالة “التيت”، إذ يرى الأستاذ جيمس ويرتز، في كتابه المخصص لدراسة الفشل الاستخباري في الهجوم، أن المفاجأة وما أعقبها من صدمة نجمت عن فشل استخباري فيما يعرف باسم “حلقة الاستخبارات”: جمع المعلومات، وتحليلها، والاستجابة لها، ونشر التحذيرات، لتعكس وتتعامل كل مرحلة منها مع ست قضايا واقعية ملحة: هوية الخصم، واحتمالية الهجوم، ونوع العمل، ومكان الهجوم، وزمانه، ودوافعه.

كانت الحلقة بأكملها تواجه مشكلات، انطلاقا من الانحيازات المسبقة للإدارة والعسكريين الأميركيين بفيتنام، وعلى رأسها “انحياز التأكيد” المذكور سابقا كما يؤكد ويرتز. فعلى مستوى الجمع مثلا وجه محلل المخابرات المركزية الأميركية سام آدمز اتهاما إلى “قيادة الدعم العسكري في فيتنام” تحت قيادة ويستمورلاند بتزويرها الأرقام لإظهار التقدم العسكري في فيتنام، وهو ما انعكس بالطريقة نفسها بالتقليل من قدرات الفيت كونغ ونياتها على السواء؛ وبالتالي تحليل هذه المعلومات والاستجابة لها ونشر التحذيرات حولها، لتنتهي الأمور بالمفاجأة والصدمة كذلك.

في نهاية كتابه ذي الثلاثمئة صفحة تقريبا، أشار ويرتز إلى حكمة الفيلسوف الصيني صان تزو في كتابه فن الحرب، قبل عدة قرون التي تقول: “اعرف عدوك، واعرف نفسك، ولن تهزم بمئة مواجهة”، مؤكدا أن هجوم التيت، وهو ما ينطبق كذلك على “طوفان الأقصى”، أظهر صعوبة تحقيق هذه الأهداف البسيطة.

ورغم حجم الفشل الاستخباري في “هجوم التيت”، الذي كان جزءا من حرب قائمة بين دولتين (فيتنام الشمالية والجنوبية) تدعم إحداهما فصيلا مسلحا يخوض حرب العصابات على جغرافيا واسعة ممتدة؛ يعد “طوفان الأقصى” فشلا أكثر جسامة للاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض على غزة حصارا خانقا منذ عقدين كاملين، ويسيطر بشكل كامل على معابرها وما يدخل إليها، كما تسيطر طائراته المسيّرة، المعروفة بالزنانات، على سمائها رصدا ومراقبة واستهدافا؛ مما يجعل الفشل في التنبؤ بالهجوم أمرا “مدهشا” وأشبه بـ”الكارثة”.

 

“معضلة المتمرد”

“لقد خضنا [في فيتنام] حربا عسكرية، بينما خاض خصومنا حربا سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي، بينما حرص خصومنا على الإنهاك النفسي. أثناء ذلك، فاتتنا إحدى أهم حكم حروب العصابات: يفوز الغِوار حين لا يخسر، ويخسر الجيش النظامي حين لا يفوز”.

هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي والمفاوض الأميركي في مفاوضات فيتنام، ١ يناير/كانون الثاني ١٩٦٩.

“قد يكون أحد التحديثات التي علينا تقديمها لمقولة كيسنجر [بعد الحرب الباردة] هو أن الدولة هي التي تفوز حين لا تخسر، وأن الغوار هو الذي يخسر حين لا يفوز”.

ديفيد أوكو، رئيس التقييم الشامل في الناتو وأستاذ دراسات الأمن الدولي في جامعة الدفاع الوطني الأميركية، معضلة المتمرد، ٢٠٢٢.

عقب هجوم التيت بأقل من عام، نشر وزير الخارجية الأميركي حينها هنري كيسنجر مقالة شهيرة في مجلة “فورين أفيرز” قيّم بها مفاوضات باريس التي أطلقها خطاب الرئيس الأميركي حينها ليندون جونسون بعد الهجوم بشهرين تماما (٣١ مارس/آذار)، والتي أدت بالمحصلة إلى انسحاب القوات الأميركية بعد ذلك ببضعة أعوام. كيسنجر، المفاوض الأميركي الرئيسي، قال في مقدمة مقالته إن هجوم التيت أدى إلى هدر كل الإستراتيجية الأميركية؛ لأنها كانت تعاني من إشكالية “مفاهيمية” رئيسية بتطبيقها قواعد الإستراتيجية الكلاسيكية على حالة لا تنطبق عليها، بمحاولة السيطرة على الأراضي واستنزاف العدو، في حين كان الوضع في فيتنام يتسم بميزتين مختلفتين: طبيعة حرب العصابات، واللاتناظر بتعريف الخسائر المقبولة لدى الجانبين.

فمن ناحية، لا تهدف حرب العصابات إلى السيطرة على الأراضي، وإنما على السكان، مستغلة نقطة ضعف القوات الأميركية التي كانت ثمانون بالمئة منها موجودة في مناطق تضم أقل من أربعة بالمئة من الفيتناميين الجنوبيين، فلم يكن الأميركيون قادرين على السيطرة على الأراضي وحماية السكان معا؛ مما جعل حكومة سايغون هي المسيطرة نهارا، في حين كان الفيت كونغ هم الموجودين ليلا، خصوصا في القرى التي وعدت الولايات المتحدة بتوسيع حمايتها لتشملها مع الوقت.

وهنا تظهر النقطة الثانية، اللاتناظر، فبينما تحتاج القوات الحكومية إلى الكثير من استعراض القوة لتظهر انتصارها، كان الفيت كونغ يحتاجون إلى عملية بسيطة ليلًا لهزّ هذه الصورة عدة أشهر قادمة. وفي المحصلة، أدى هذا إلى أبرز ملامح الإستراتيجية الأميركية في فيتنام: انتصارات عسكرية لا يمكن تحويلها إلى مكاسب سياسية مستدامة، وجه إليها “هجوم التيت” في النهاية رصاصة الرحمة، مُظهِرًا فشلها بتأكيده عدم وجود “أي مناطق آمنة للسكان الفيتناميين”، سواء في القرى أو في المدن.

صمدت تصورات كيسنجر لعقود وتحولت إلى حكمة سياسية وعسكرية شهيرة تحضر كلما نوقشت فيتنام أو “حروب العصابات” عموما، لأسباب من أهمّها صياغتها المغرية، وأنها صادرة عن “الثعلب العجوز” صاحب النظام العالمي، رغم أنها تُناسب بشكل مباشر وقت نشرها فقط؛ مما يجعلنا عرضة للوقوع في نفس الإشكال الذي حاول كيسنجر نفسه التعامل معه: تطبيق قواعد إستراتيجية على حالة لا تنطبق عليها، سواء في السنوات القليلة الباقية من حرب فيتنام، أو في الحروب غير النظامية بأسمائها المختلفة (مثل التمردات، حروب العصابات، الحروب غير التناظرية، الحروب الثورية، “حرب الناس”) عموما.

ففي فيتنام، أشار سمرز في تقديم كتابه عن الإستراتيجية، الصادر بعد عقدين من مغادرته فيتنام، إلى أن أبرز إشكالات دراسة فيتنام هو اعتبار أنها انتهت مع هجوم التيت؛ وبالتالي انتشار تصور عام مفاده أن الولايات المتحدة هُزمت في حرب عصابات سببها عدم تقدير دقائق حروب التمرد ومكافحة التمرد. بيد أن ما جرى مختلف تماما، فقد استمرت الحرب كما هو معروف سبعة أعوام تالية، والأهم أن هذه الحرب المستمرة لم يكن لها علاقة بالتمردات أو بحروب العصابات، بل كان تهديدها ناجما عن القوات النظامية الفيتنامية الشمالية “بقوة لديها ١٦٠ ألف عنصر، موزعون على ١٨ فرقة، مدعومون بالدبابات والمدفعية”، كما يقول مسؤول محطة سايغون في المخابرات المركزية الأميركية ومديرها السابق ويليام كولبي.

وعلى العكس، كان تأثير هجوم التيت سلبيا على قوات الفيت كونغ، إذ تقلصت أعدادهم بشكل كبير إثر الاستنزاف بالهجوم، وأصبحوا عاجزين عن شن عمليات قتالية كبيرة، لدرجة أن القيادي الكبير الفيتنامي الشمالي تران فان دَنغ لم يذكر دورهم في شهادته عن “انتصار الربيع العظيم” عام ١٩٧٥؛ مما يعني أن حرب فيتنام استعادت الشكل الكلاسيكي للحروب خلال ما بقي من أعوام، بعد أن حقق هجوم التيت غرضه بإطلاق مفاوضات الانسحاب.

ومن هنا تختلف حرب فيتنام عن “طوفان الأقصى”، التي لا تزال تحافظ على شكل التمردات وحروب العصابات، مع وجود فارق رئيسي إضافي يبعدها عن “الشكل الكلاسيكي” لحروب التمرد كما وضعها وطبقها لينين وجيفارا، وماو تسي تونغ، هو كونها حرب مدن، لا حرب أرياف. بجانب ذلك، شهدت حروب التمرد ذاتها، عقب انتهاء الحرب الباردة، تحولا جوهريا أدخل المتمردين في “معضلة” كما يقول الأستاذ المختص بالتمرد ومكافحة التمرد ديفيد أوكو. فبينما كان من المعتاد -أثناء الحرب الباردة- إسقاط المتمردين للنظم، محلية أم مستعمِرة، في كل أنحاء العالم؛ لم يستطع المتمردون منذ مطلع الألفية الانتصار إلا في حالات نادرة (كما في ليبيريا وساحل العاج وليبيا والسودان، بجانب انتصار طالبان في أفغانستان).

ليس الأمر أن الدول أصبحت أكثر قوة أو أن المتمردين أشد ضعفا، بل بتغير السياق نفسه، كما يوضح أوكو في كتابه، وذلك بأربعة جوانب مختلفة: (١) زيادة قوة الدولة وشرعية احتكارها للعنف، وبالتالي (٢) زيادة حصولها على الدعم الدولي عند مواجهتها المتمردين (كما في مثال “الحرب على الإرهاب”)، مقابل (٣) تراجع وجود قوى عظمى داعمة للمتمردين كما كان الحال أثناء الحرب الباردة، وأخيرا (٤) زيادة التمدن بشكل مطرد، وبالتالي تقليص المساحات التي يمكن بها للمتمردين تنظيم أنفسهم كما في المخطط التقليدي الماوي (نسبة لماو تسي تونغ) للتمردات، الذي اتبعه المتمردون من كل أنحاء العالم، من الجنرال غياب إلى أبي مصعب السوري وتنظيم الدولة الإسلامية.

تظهر هذه العوامل الفوارق الجوهرية بين حرب فيتنام، وسبب نجاحها، وبين “طوفان الأقصى”، وإن بدرجات مختلفة. ففي النقطتين الأولى والثانية، يمكن النظر إلى الدعم الكبير الذي يتمتع به الاحتلال الإسرائيلي في حربه، رغم تزايد الانتقادات، وهو ما بدا في استقباله في الكونغرس الأميركي بـ”حفلة تصفيق”. أما في النقطة الثانية، فقد كان من أهم عوامل نجاح حرب فيتنام الدعم “الجوهري” الذي تمتعت به فيتنام الشمالية من الصين والاتحاد السوفيتي، اللذين أمنا لها خط إمداد لوجستي مستمر بالأسلحة والعتاد.

وبجانب هذه العوامل، تحضر النقطة الأخيرة (التمدن) بشكل بارز في حالة “طوفان الأقصى” الذي يجري خوضه بشكل كامل ضمن إطار “حروب عصابات المدن”، التي يعدها أستاذ العلوم السياسية أنطوني جيمس جوس الجانب الآخر المعاكس تماما لحروب التمرد بصيغتها الكلاسيكية، حيث يسعى المتمردون للسيطرة على مساحات واسعة يتخذونها قاعدة انطلاق، سواء في الأرياف الشاسعة لبلدانهم أو خارج حدودها، لخوضهم حربهم “المستدامة” كما يسميها ماو تسي تونغ ولينظموا فيها أنفسهم ويرتبوا صفوفهم تمهيدا لإسقاط الدولة.

لتصبح عبارة “حروب عصابات المدن” متناقضة ذاتيا بجمعها حرب العصابات، مع المدن، التي يصبح بها تأسيس القاعدة أكثر صعوبة مع تقنيات المراقبة والاختراق، وتصبح “حروب المدن” كما تصفها مؤسسة راند “أسهل الحروب لهزيمة المتمردين”، وهو ما يدعمه النظر التاريخي في حالات حروب المدن، التي انتهت جميعها تقريبا، من وارسو وسايغون مرورا بغروزني والفلوجة، والموصل والرقة وحلب، بهزيمة المتمردين وتدمير المدينة؛ مما يؤدي، في كثير من الأحيان كذلك إلى أن تؤدي الانتصارات في معارك المدن في النهاية إلى الهزيمة في الحروب الأوسع، كما تظهر لنا معركة هوي، إحدى أكبر معارك “هجوم التيت” التي استطاعت القوات الأميركية وقوات فيتنام الجنوبية بها استعادة ثالث أكبر مدن فيتنام الجنوبية بعد ٢٦ يوما من القتال الشديد، بعد تدمير ٨٠ بالمئة منها وتهجير كل سكانها تقريبا؛ مما تسبب في تراجع التأييد للفيتناميين الجنوبيين وداعميهم الأميركيين في النهاية.

بيد أن حالة حرب المدن في غزة أكثر استثنائية، ليس فقط لمساحتها الصغيرة التي تتركز بها كثافة سكانية كبيرة، استخدم ضدها الاحتلال “الحصار” تكتيكًا عسكريا ووسيلة عقابية، بل لكون الساحة المدينية/ الحضرية نفسها أكثر تعقيدا، خصوصا من حيث البعد الثالث (أي ما فوق الأرض وتحتها)، سواء بوجود الطوابق العديدة المرتفعة -التي حرص جيش الاحتلال على التخلص منها منذ أول أيام المعارك- أو بشبكة الأنفاق المعقدة والممتدة، والتي كانت عاملا أساسيا في تحقيق المفاجأة والصدمة كما ذكرنا أعلاه، وما زالت تؤدي اليوم، بجانب الأفخاخ والكمائن، دورا كبيرا في الإستراتيجية العسكرية “غير التناظرية/ المتكافئة” التي ساهمت في صمود واستمرار المقاومة التي أصبحت أقرب إلى “قتال الأشباح”،  بطريقة تختلف عن كل ما سبقها من حروب، لدرجة تأكيد الأستاذة والباحثة في “معهد الحرب الحديث” دفنة رايتشموند باراك أن “حماس أعادت اختراع حرب الأنفاق”، التي كانت أحد أهم العوامل في حسم الحرب اللاتناظرية لصالح المقاومة الفلسطينية؛ وبالتالي هزيمة جيش الاحتلال، كما يتضح أدناه.

غُلبت إسرائيل، فهل انتصرت المقاومة؟

 

“إذا نجحت إٍسرائيل في نزع سلاح حماس عسكريا دون أفق سياسي فقد هزمتنا حماس”.

الكاتب الإسرائيلي يوفال هراري، “اربح كل المعارك، واخسر الحرب”، يديعوت أحرونوت، ١٥ مارس/آذار ٢٠٢٤

“الاعتقاد أن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفاءها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين. حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها”.

المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري، ١٩ يوليو/تموز ٢٠٢٤

 

غُلبت إسرائيل. هذه ليست عبارة مبالغا فيها من أحد منتسبي المقاومة أو محبيها أو مؤيديها، بل اعترافا من بعض مسؤولي الاحتلال الإسرائيلي ومؤيديه أنفسهم كما في الاقتباسات أعلاه، وكذلك من بعض المراقبين المطلعين على الحرب المستمرة لأكثر من تسعة أشهر، انطلاقا من فكرة مفادها أن إسرائيل فشلت في تحقيق أي من أهدافها التكتيكية، وعلى رأسها استعادة الأسرى، والإستراتيجية، متمثلة بتفكيك قدرات حماس العسكرية وإسقاطها، كما خسرت في غضون ذلك سمعتها شعبيا ودعمها رسميا، وشهدت فشلا في “الاتصال الإستراتيجي” فيما وُصف بأنه تحطم لـ”السردية الإسرائيلية” التي عملت “الهاسبارا” على بنائها على مدى عقود، كل هذا لصالح المقاومة التي ساهمت إستراتيجية إسرائيل “الفاشلة” في زيادة قدرتها على تجنيد وتعبئة المقاتلين، وتوسع تأييدها شعبيا، داخل فلسطين وخارجها في ظل تزايد وتيرة التطبيع خلال الأعوام القليلة الماضية، التي وضع الطوفان لها حدا قبل وصولها إلى عواصم عربية أخرى.

لكن مقولة هزيمة إسرائيل وفشلها لا تستلزم بالضرورة وبشكل تلقائي وجهها المقابل، أي انتصار المقاومة بالمعنى الكلي للنصر، وهو ما يدفعنا إلى النظر في معنى “النصر”، خصوصا في الحروب غير النظامية أو غير التناظرية. في دراسة مطولة بعنوان “كيف يفوز الضعيف بالحرب: نظرية للحروب غير التناظرية”، يرى الأستاذ في جامعة هارفارد إيفان أريغوين- توفت أن الحرب غير التناظرية تكون عادة بين طرفين: قوي وضعيف يستخدم كل منهما إستراتيجيات هجوم ودفاع مباشرة (بهدف السيطرة أو الاستنزاف) أو غير مباشرة (كما في حالة حروب العصابات). إذا كان التفاعل الإستراتيجي بين الجانبين متوافقا (أي مباشرا أو غير مباشر في الحالتين) يكون النصر حليف الطرف القوي، أما إذا كان غير متناظر، كما في حالة “الطوفان” حيث يحاول الاحتلال السيطرة والحفاظ على مواقعه مقابل استخدام المقاومة لحروب العصابات، فعلى الأرجح أن يكون النصر حليف الطرف الأضعف.

بعد الطوفان بشهرين، تطرق الأستاذ أوكو، المذكور أعلاه، لمعنى “النصر” في الحروب غير النظامية بإسقاطه على “طوفان الأقصى”، مقارنا إياه كذلك بـ”هجوم التيت”، مظهرا أن حماس “استطاعت تحقيق شيء من النجاح”، لكنه استدرك كذلك بأن خسائر حماس الملموسة على يد إسرائيل، وإن كانت بعيدة عن الهدف المعلن بـ”القضاء على حماس”، ووقوعها في “معضلة المتمرد”؛ تجعل موقفها صعبا.

فمن الناحية العسكرية، وانطلاقا من الارتباط المباشر بين المقاومة الفلسطينية في غزة وكل من البيئة الاجتماعية المستنزفة بين شهداء وجرحى ونازحين في “إبادة جماعية/ جينوسايد”، من ناحية، والبيئة العمرانية التي تعمل إسرائيل على تدميرها واستهدافها بشكل ممنهج في “إبادة عمرانية/ أوربِسايد”، من الناحية الأخرى، فقد يكون ثمن انتصار المقاومة السياسي المتحقق، وبالتالي جدواه، متمثلا بقدرة المقاومة على إعادة بناء نفسها، محل تساؤل، فهل ستستطيع الحرب أن تساهم في استمرار السياسة بوسائل أخرى، كما تقول لنا حكمة كارل فان كلاوفيتز، الجنرال البروسي الشهير واضع أسس علم الحرب الحديثة؟

وبإظهار التشابهات الأساسية والفروقات الجوهرية، يمكننا الاستشراف بالنظر إلى ما بعد “هجوم التيت” في حرب فيتنام، حيث استندت فيتنام الشمالية إلى حماية مكاسبها السياسية من الهجوم على جيش فيتنام الشمالية النظامي، أكثر من “الفيت كونغ” الأقرب إلى الجيش غير النظامي أو الغِوار، وهو أمر -رغم الخسائر العمرانية والبشرية الكبيرة- يبدو ممكنا لدى حماس التي لم تتأثر (بحسب المؤشرات الحالية) بنيتها العسكرية الجوهرية، وما زالت قادرة على التحول والتطور، أو “فاعل غير دولتي قادر على تطوير قدرات عسكرية نظامية”، الجيش الذي يسعى لتحقيق هدف “طوفان الأقصى” كما أعلنه محمد الضيف: “الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم”؛ أو أنها كما أشار الباحث محمود هدهود، بوصفها “الشكل الوحيد من الحرب الذي يتم الانتصار فيه عبر سلسلة من المعارك الخاسرة”.



اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading