تمتلك الهند خامس أكبر اقتصاد في العالم، وهو أيضا من بين الأسرع نموًّا، وهي دولة نووية تعد الثانية عشرة في ترتيب الدول من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية مجتمعة، لكن في تلك الدولة “المتقدمة” في شتى المجالات بمعايير العالم اليوم، والتي تعد من ضمن الخمس الكبار في مجال التقدم العلمي، توجد جزيرة يُمنع الاقتراب منها.
جزيرة يسكنها بشر منذ آلاف السنين لا يعرفون شيئًا عن العالم الخارجي ولا نعرف عنهم إلا أشياءَ قليلة جدًّا. هم لا يعرفون على الأرجح أن هناك عالمًا خارج جزيرتهم لأنهم لم يخترعوا السفن حتى الآن، فإذا تمكنت بأعجوبة من زيارة تلك الجزيرة فستجد نفسك وكأنك قمت برحلة عبر الزمن لتعيش في عصر يشبه بما كنت تقرؤه عن “العصر الحجري”.
جزيرة سينتينيل.. حيث يتقدم الزمن بصيغة مختلفة
في الواقع باستطاعة التاريخ الجيولوجي أن يقدم لنا مفاتيح لبعض أسرار الجزيرة. يعتقد الآن قطاع كبير من الباحثين أن البشر الأوائل الذين استوطنوا جزر أندمان الهندية الواقعة على خليج البنغال التي تعد سينتينيل جزءًا منها، قد فعلوا ذلك منذ 26 ألف عام في عصر الذروة الجليدية الأخيرة، ففي هذا العصر كان منسوب المياه أقل ومن ثم كانت جزر أماندان مرتبطة بالأراضي الآسيوية مباشرة من خلال اليابسة، ولكن بعد انتهاء تلك الذروة الجليدية بدأ الماء يغمر محيط الجزيرة لتنفصل عن العالم، ومنذ ذلك الحين عاش سكان الجزر في عصر مختلف عن العصور التي عاشها العالم الذي نعرفه، حتى جاء عام 1789.
في هذا العام جاءت سفن الاستعمار البريطاني إلى الجزر، وكان عدد سكانها الذين كانوا على الأرجح منفصلين عن العالم والتاريخ الذي نعرفه، حوالي سبعة آلاف نسمة مشكلين قبائل ولغات مختلفة، وكما فعل الأوروبيين في كل مرة زاروا فيها سكانًا أصليين منفصلين عن العالم، جلبوا معهم أمراضًا جديدة وعادات صحية لا يحتملها الجهاز المناعي لهؤلاء السكان، ومن ثم بدأ السكان الأصليون ينقرضون، وبدأ البريطانيون والهنود يحلّون بالجزيرة بدلًا من سكانها الأصليين، لكن في الجنوب الغربي من جزر أندمان كانت هناك جزيرة صغيرة منعزلة عن بقية الجزر وهي جزيرة سينتينيل، ومن ثم لم تتعرض تلك الجزيرة المعزولة لما تعرضت له بقية الجزر، وحتى حين وصل البريطانيون في النهاية إلى الجزيرة لم يستطيعوا أن يمكثوا فيها أو يتواصلوا مع أهلها وهو الحدث الذي سنناقشه تفصيلًا في جزء لاحق من هذا المقال، وارتأوا في النهاية أن ترك الجزيرة وشأنها هو الحل الأنسب.
قانونيًّا تعد جزيرة سينتينل تابعة للهند، على الرغم من أن أهلها لا يعرفون على الأرجح أن هناك عالمًا خارج جزيرتهم توجد فيه دولة اسمها الهند، وكانت الهند قد نسيت الجزيرة منذ استقلال البلاد في عام 1947، لكنها عادت لتؤكد سيادتها عليها في عام 1970، والجزيرة بعيدة تمامًا كما سبق أن أوضحنا عن طرق الشحن الرئيسية، كما أنها محاطة بشعاب مرجانية ضحلة بدون موانئ طبيعية.
بخلاف بقية جزر أماندان بقي سكان جزيرة سينتينيل حتى اللحظة على الأرجح لا يعرفون أن البشرية قد وصلت إلى حد اختراع الحاسب الآلي والقنبلة النووية والصاروخ الذي يجوب الفضاء الخارجي فهم يعيشون في عالم آخر أقرب إلى عالم العصر الحجري منه إلى عالمنا وحين يقترب منهم أحد من سكان عالمنا يقذفونه بوابل من السهام، فهو بالنسبة لهم كائن قادم من الفضاء الخارجي. وفي الواقع يصعب علينا أن نعرف ما الذي يجري في جزيرة سينتينيل الآن فهي مغطاة بغابات كثيفة؛ مما يجعل رؤيتها من الطائرات مهمة صعبة.
تبلغ مساحة الجزيرة حوالي 60 كيلومترا مربعا، ولا يمتلك أحد خريطة لها من الداخل، كما لا يعرف أحد ديانة الجزيرة أو قوانينها، وما تمكن المراقبون من معرفته من خلال النظر إلى الجزيرة من القوارب، هو أن أهلها يعيشون على الصيد والالتقاط.
ما نعرفه عن سكان الجزيرة
لا يمكن لباحث أن يتكهن بدقة بعدد سكان الجزيرة المعزولة، لكن بناء على المشاهدات والاحتكاكات التي تمت معهم، والتي انتهت دائمًا بنهايات مأساوية، يرجح الباحثون أن أعدادهم تتراوح بين 80 و500 شخص، ولا يمكننا فهم لغتهم لأنها ليست متشابهة حتى مع لغات أهالي بقية جزر أندمان، لكن المراقبين استمعوا إليهم وهم يغنون في الليل، والواقع أن الاختلاف الجذري بين لغة سكان سينتينيل وبقية لغات الجزر يعطي دليلًا قويًّا على أنهم كانوا منعزلين حتى عن سكان بقية الجزر.
وقد لاحظ المراقبون مما بدا من حياة سكان الجزيرة، أنهم يعيشون في أكواخ ذات أسقف مائلة ويشعلون النار خارج كل كوخ منها، كما أنهم يصنعون زوارق بدائية صغيرة تتحرك بأعمدة طويلة في المياه الضحلة لتساعدهم على صيد الأسماك وسرطان البحر، ويرجح الباحثون من خلال دراسة الشعوب الأصلية في بقية جزر أندمان أن سكان جزيرة سينتينيل ربما يعيشون على الفواكه وبيض طيور النورس والخنازير البرية والطيور.
وقد ظهر من المواجهات العنيفة التي حدثت بين سكان الجزيرة وبين سكان عالمنا الذين حاولوا الاقتراب من جزيرتهم أنهم يستخدمون الرماح والسكاكين ذات الرؤوس الحديدية ببراعة واضحة، ويرتدي رجالهم الذين يظهرون على شاطئ الجزيرة أربطة على الرأس والخصر تكون أكثر سمكًا عادة من تلك التي تربطها النساء حول الخصر والرقبة والرأس. وهناك أمر مهم ربما يخبرنا شيئًا عن طبيعة تفكير هؤلاء السكان، فالمرة الوحيدة التي أظهر فيها السكان طبيعة أقل عدوانية في التعامل مع زوار عالمنا الخارجي كانت حين زارتهم باحثة أنثى واقتربت من شواطئهم محملة بالهدايا مثل ثمار جوز الهند التي أظهر سكان سينتينيل إقبالًا واضحًا عليها، وقد كانت تلك حادثة استثنائية فهم عادة “عدوانيين” للغاية مع الزوار حتى لو اقتربوا بالهدايا.
أمر آخر جدير بالانتباه فيما يخص هذا الشعب، وهو أن خصائصهم الشكلية لا تتشابه مع الصفات الشكلية الآسيوية رغم تبعيتهم الرسمية للهند. فإذا نظرت إليهم سترى أن ملامحهم أفريقية بوضوح، إنهم داكني البشرة، ويرجح بعض علماء الوراثة أن أسلاف سكان تلك الجزيرة ربما انفصلوا عن بقية الأنواع البشرية منذ 60 ألف عام، وأن هؤلاء الأسلاف ربما يمثلون مجموعة من المهاجرين الأوائل من قارة أفريقيا إلى آسيا في تاريخ الإنسانية.
ورغم أن عددا من الدراسات وصفت هذا الشعب بأنه ينتمي إلى العصر الحجري أكثر مما ينتمي إلى عصرنا، إلا أن الباحثين المدققين لا يتفقون تمامًا مع هذه المقولة، فالأدلة توضح أن شعب الجزيرة متجاوز للعصر الحجري فهم يستخرجون المعادن من السفن المحطمة على الشعاب المرجانية بجوارهم ويصنعون منها الأسلحة والأدوات والأقواس بحرفية وكفاءة واضحة إضافة إلى كون رؤوس الأسهم التي يصنعونها من المعادن شاهدة على ذلك. وهو ما يعني أنهم متجاوزون للمعارف التقنية التي تعكس معارف العصر الحجري.
إرث الاستعمار
ربما يكون السؤال الذي يدور في ذهنك الآن هو ما الذي ينبغي لعالمنا فعله اتجاه هذا العالم الآخر، هل يستحق هؤلاء السكان أن نعرفهم بوجود التلفاز والهاتف وموقد الغاز والروايات والفنون وكرة القدم، أم نتركهم في حياتهم التي توصف بأنها بدائية؟ يعد هذا السؤال سؤالًا سياسيًّا وفكريًّا معقّدا.
لقد أظهر سكان الجزيرة بشكل لا يدع مجالًا للشك أنهم لا يرحبون على الإطلاق بالتواصل مع عالمنا على الرغم من أنهم رأونا نركب سفنًا “متقدمة” ونحمل أغذية مختلفة. هم على الأرجح لا يرون فينا إلا “كائنات فضائية”، لكن من الناحية الأخرى يعتقد البعض أنه من غير المنصف أن نترك مجموعة من البشر لا تعرف أي شيء عما وصل إليه أقرانهم البشر من تقدم علمي وتكنولوجي وثقافي.
ويجادل بعض الباحثين بكون أغلب الظن أن خبرات شعب الجزيرة مع عالمنا لن تجعلهم يظنون بأي حال أننا قادمون إليهم بأي خير، فالذكرى الأبرز التي ربما احتفظ بها سكان الجزيرة عبر الأجيال من اتصالهم مع تلك المخلوقات الغريبة -سكان عالمنا- كانت ذكرى استعمارية بريطانية أليمة تسببت على الأرجح في مقتل الكثير من السكان في الجزر الأخرى القريبة، كما أن هناك فترة سيطرت فيها اليابان خلال الحرب العالمية الثانية على ما حول الجزيرة، ومن المحتمل أن تكون هناك ذكرى أخرى أكثر إيلامًا في تلك الحقبة لا نعرف عنها شيئًا.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، في ذروة العصر الاستعماري، كانت شركة الهند الشرقية ذات التفويض الملكي البريطاني قد امتلكت مصانع وأراضي شاسعة في الهند وكانت تمتلك جيوشًا وأسلحة تبسط بها سيطرتها وتحمي ممتلكاتها وتتحكم من خلالها في الشؤون الإدارية للأراضي الهندية، وبحلول عام 1875 صارت بريطانيا تبسط سيطرتها على ثلثي الأراضي الهندية.
وكان أول تواصل لسكان السينتينيل مع العالم الخارجي في هذا القرن على الأرجح، إذ ذهبت سفينة تجارية بغير غرض مسبق إلى شاطئ الجزيرة وبداخلها عشرات الركاب، ولم يقترب منهم سكان الجزيرة في البداية لكن بعد 3 أيام انقض السكان بأسلحتهم ليهجموا على الزوار غير المرحب بهم، ولكن سرعان ما وصلت سفينة تابعة للبحرية البريطانية وأنقذت من نجا من ركاب السفينة التجارية، وانتهت تلك الزيارة غير المخطط لها عند هذا الحد.
دعونا نُلقِ نظرة على قصة تواصل الاستعمار البريطاني مع الجزيرة المعزولة من بدايتها. حين وصلت سفن الاستعمار البريطاني بشكل نظامي إلى جزر أندمان للسيطرة التامة عليها كان عدد سكانها المنفصلين عن العالم والتاريخ الذي نعرفه، حوالي سبعة آلاف نسمة، لهم قبائل ولغات مختلفة، وكما فعل الأوروبيون في كل مرة زاروا فيها سكانًا أصليين منفصلين عن العالم، جلبوا معهم أمراضًا جديدة وعادات صحية لا يحتملها الجهاز المناعي لهؤلاء السكان فضلًا عن حمل السكان الأصليين على اعتناق الديانة المسيحية والسلوكيات الأوروبية “المتحضرة”، ومن ثم بدأ السكان الأصليون ينقرضون، وبدأ البريطانيون والهنود يحلّون بالجزيرة بدلًا من سكانها الأصليين، لكن في الجنوب الغربي من جزر أندمان كانت سينتينيل منعزلة عن بقية الجزر، ومن ثم لم تتعرض لما تعرضت له بقية الجزر، التي أنشأ عليها البريطانيون مؤسسة عقابية ضخمة لمعاقبة الهنود المتمردين والثوار الهنود.
وعلى الرغم من أن سكان جزيرة سينتينيل لا يمتلكون سفنًا يمكنها الإبحار إلى ما وراء بحيرة شاطئهم، فإن بعض الباحثين يرجح أنه من المحتمل أن يكون بعض سكان بقية الجزر قد هربوا من الهجوم البريطاني وذهبوا إلى الجزيرة المعزولة وحكوا لسكان سينتينيل ما حدث من ترويع. ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدًا نظرًا إلى غياب وسيلة التواصل اللغوي أو حتى المعرفة المسبقة بالسنتينيل عند سكان بقية الجزر.
وفي عام 1879، كانت سينتينيل على موعدها الأول للالتقاء الجدي بالعالم الخارجي، إذ ذهب الأرستقراطي المسيحي البريطاني سليل العائلة الثرية صاحب الميول الفنية والمزاج العصبي المتقلب موريس فيدال بورتمان ليتسلم وظيفته الجديدة من الإدارة الاستعمارية البريطانية ويصبح ضابطًا مسؤولًا عن جزر أندمان، ومكلفًا باستكشاف المناطق النائية في المستعمرات البريطانية ومحاولة معرفة السكان الأصليين، ثم عمد الفتى إلى فهرسة مجلدات بأنواع الحيوانات والمعادن التي وجدها في الجزر ووصف ثقافة وطقوس من بقي من السكان الأصليين فيها وحاول تعلم لغاتهم أيضًا، ومن موقعه على الجزر بدأ يرسل مقالاته إلى الصحف والمجلات العلمية البريطانية عن اكتشافاته الجديدة، وقد وصف بورتمان سكان الجزر في تلك المقالات بأنهم ينتمون إلى أجناس ما قبل التاريخ، وأن أدمغتهم أقرب إلى أدمغة الحيوانات منها إلى البشر، وقد كان الفتى البريطاني يعامل مكتشفاته من تلك الأجناس كما وصفها بقسوة إذا ما أساؤوا التصرف من وجهة نظره.
وفي عام 1880 قرر الفتى الثري زيارة تلك الأرض المجهولة (سينتينيل) وكانت بصحبته كتيبة مسلحة. لكنه حين حلّ بالجزيرة مدة أسبوعين وقد كان جنوده مرهقين بشدة من حرارة الجو، اختبأ سكان الجزيرة عن تلك “المخلوقات البيضاء الفضائية”، لكن الفتى البريطاني اختطف أربعة أطفال صغار وزوجين مسنّين أخذهما معه أسرى ليضعهم في المؤسسة العقابية بأندمان رغم عدم قدرته على التواصل معهم من خلال اللغة، وسرعان ما مات العجوزان فقرر بورتمان أن يعيد الطفلين إلى الجزيرة ويترك معها الهدايا حتى يتمكن لاحقًا من التواصل مع سكان الجزيرة.
وبالطبع يمكن أن نتوقع ما حدث حين عاد الطفلان، فعلى الأرجح لم يحتمل جهازهم المناعي الأمراض والفيروسات التي يحملها الضباط البريطانيون، وقد ذهبوا بالهدايا إلى أسرهم في الجزيرة وعليها آثار عالمنا التي من المحتمل أن تكون مدمرة لعالمهم، ومن المحتمل أيضًا أن تلك الهدايا قد تسببت بما عليها من بكتيريا وفيروسات في مقتلة عظيمة.
لاحقًا كتب بورتمان في عام 1899 بلهجة معاتبة لذاته أن الجهود التي بُذلت للتعرف على سكان الجزيرة لم تساهم -في الحقيقة- في شيء سوى زيادة رعب السكان من عالمنا وزيادة عدائهم اتجاهنا، وقد أقنعت تجربة بورتمان ومن بعده الردود العنيفة لسكان الجزيرة على أي زائر، الإدارة البريطانية بأن الأفضل هو ترك سكان الجزيرة وشأنهم، وهو الأمر الذي سارت عليه الأمور أكثر من قرن بعد ذلك.
في العقود اللاحقة حاول بعض الباحثين والرحالة أن يكسروا الحاجز بين عالمنا وبين الجزيرة لكن هذه التجارب لم تقابل من جانب سكان جزيرة سينتينيل إلا بالعدائية الشديدة المتمثلة في وابل من سهامهم، وكانوا حين يصيبون أحدًا من الزوار القادمين بسهامهم يضحكون ويهللون على نحو واضح للكاميرا من شاطئهم.
وربما كان الاستثناء الوحيد البارز هو الزيارة التي كانت فيها عالمة الأنثروبولوجيا مادهومالا تشاتوبادياي عام 1991، في الواقع كانت هذه الزيارة استثنائية للغاية في تاريخ العلاقة مع الجزيرة، إذ ربما اطمأن السكان حين وجدوا امرأة أمامهم، لقد كانوا متجهزين في البداية للرشق بوابل من سهامهم كما يفعلون عادًة، لكن امرأة من شعب الجزيرة ظهرت فجأة وهي تمنع رجلًا من فعل ذلك، كما تروي الباحثة، وبعدها توجه أهل الجزيرة الواقفون على الشاطئ من الذكور بعدما ألقوا أسلحتهم إلى مركبة الباحثة وأخذوا منها ثمارًا من جوز الهند بينما كان نساؤهم وأطفالهم يراقبون من بعيد، وفعلوا ذلك مرارًا وتكرارًا، وكانت تلك هي الحالة الوحيدة المسجلة لاتصال ودّي قريب للغاية معهم.
ورغم ذلك، ففي الزيارة اللاحقة عاد شعب سينتينيل إلى التعامل مع الزوار بعدائية وقاموا بطردهم، بسبب حادثة حاول فيها أحد أعضاء البعثة العلمية أن يأخذ عقدًا مزخرفًا يرتديه رجل من شعب سينتينيل، وبعد تلك الزيارة بسنوات قليلة، وتحت ضغط من الجماعات المدافعة عن السكان الأصليين قررت الهند تجريم الذهاب إلى الجزيرة وكان مسوغها أن تواصل سكان الجزيرة مع سكان عالمنا قد يضر بصحتهم ويؤدي إلى كارثة، نظرًا لافتقار جهازهم المناعي إلى القدرة على التعامل مع أمراضنا، كما أنهم يعيشون في الجزيرة منذ آلاف السنين وصحتهم جيدة وحالهم تبدو عليه السعادة ويبدو أن كل ما يريدونه منا هو أن نتركهم وشأنهم.
وفي عام 2006 حين انحرفت مركبة صيد فوصل صيادان خطأً إلى شاطئهم، تعامل سكان الجزيرة مع الزائرين من العالم الخارجي بعنف شديد فقتلوهما وعلقوا جثتيهما لتصبح في مواجهة العالم الخارجي على الشاطئ وكانت تلك رسالة واضحة من سكان الجزيرة إلى العالم الخارجي الذي يرسل إليهم مخلوقات فضائية عجيبة تركب سفنًا ومراكب متطورة ومدهشة، وكأنهم يقولون إن التواصل الوحيد معكم سيكون الحرب إذا فكرتم مرة أخرى في المجيء. ويرجح الآن بعض الباحثين أنه ربما يكون السبب الرئيسي في عدائية سكان الجزيرة للزوار هو ما تناقلوه من خبرات عن تجربة بورتمان الاستعمارية.
هل ينبغي أن نحملهم على التواصل معنا؟
يبقى السؤال الفكري الذي يقسم الباحثين إلى فريقين وهو هل ينبغي أن نستمر في المحاولات العلمية للتواصل مع المعزولين الذين لا يعرفون شيئًا عن عالمنا أم لا؟ والواقع أن غالبية الباحثين الآن يميلون إلى الرأي القائل بأن هؤلاء البشر لا يحتاجون إلينا، بل كل ما يحتاجون إليه هو أن نتركهم وشأنهم.
لكن يظل هناك من يرفض هذا الرأي وعلى رأسهم بعض “المبشرين” الدينيين وخاصة المسيحيين، ففي رأي هؤلاء المبشرين أن من حق تلك الشعوب المعزولة أن تعرف “كلمة الله”، وأن هذا هو “الواجب التبشيري الذي ينبغي القيام به”.
في عام 2018 حدثت حادثة مروعة ناتجة عن هذا التصور، ففي نوفمبر/تشرين الأول من هذا العام ذهب المبشر الأمريكي الشاب الذي كان يبلغ عمره 26 عامًا، جون ألين تشاو، إلى سينتينيل متحايلًا على القانون بعد أن اتفق مع صاحب قارب صيد على أن يوصله إلى الجزيرة التي كان يرى أنها “آخر معاقل الشيطان”، وهناك لقي المبشر حتفه، إذ قتله سكان الجزيرة من دون أن يفهموا سبب مجيئه، وجدير بالذكر هنا أن الحكومة الهندية حاليًّا تعتبر شعب سينتينل شعبًا ذا سيادة على أرضه ويحق له قتل المعتدي على سيادته من دون محاسبة.
وليس بعض المبشرين فقط هم من يدعون إلى كسر السياسة الرسمية التي قررت ترك هؤلاء السكان وشأنهم، فبعض الباحثين الأنثروبولوجيين يجادلون بأن التواصل مع هؤلاء السكان يساعد على حمايتهم وازدهارهم إذا ما تم وفقًا لخطة محسوبة، وأنه لو لم تقم بذلك الآن الجهات العلمية المختصة فسيحدث ذلك حتمًا في المستقبل ربما من خلال وكلاء قد يكونون أكثر إهمالًا ووحشية في التعامل مع هؤلاء السكان المنعزلين، فالتواصل معهم الآن قد يدمجهم في عملية الحماية الحكومية، وقد يمنحهم العديد من المساعدات الطبية والغذائية. ويحاجّ أيضًا أنصار الرأي الساعي للاتصال مع تلك الجماعات بأن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه يريد الاتصال مع الآخرين، ومن ثم فإن الرغبة في الانعزال هي رغبة غير منطقية ناتجة عن الخوف الشديد الذي ينبغي كسره.
وفي المقابل يعتقد المدافعون عن حقوق الشعوب الأصلية وتحديدًا أكثرها عزلة وهم أهل سينتينيل، أن المروجين لفكرة ضرورة التواصل مع هؤلاء السكان واستكشافهم هم عادة إما مبشرون وإما جماعات ضاغطة لصالح شركات النفط والتعدين، وأن هدف هؤلاء في النهاية يكون سرقة أراضي تلك الشعوب وقطع أشجارهم والتنقيب عن الثروات في أراضيهم. ويرى هؤلاء المدافعون عن عدم الاتصال أن الاتصال دائمًا ما يؤدي إلى إصابة تلك الشعوب بأمراض مثل الإنفلونزا والحصبة لا يستطيع جهازهم المناعي التعامل معها.
ويجادل أيضًا أنصار نظرية عدم التواصل بأن نظرة فاحصة على ما حدث في جزر أندمان تكفي لفهم لماذا يكون عدم التواصل أفضل؛ فالقبائل الأخرى في جزر أندمان التي تواصلت مع الحضارة الغربية انسحقت ومات معظم أفرادها سريعًا ومن بقي منهم حتى الآن يعيش على معونات الدولة، وعلى العكس من ذلك يظهر سكان سينتينيل معتمدين على أنفسهم ومزدهرين ويظهرون دائمًا في اللقطات وهم متمتعون بمستوى صحي جيد جدًّا، حتى حين تحدث الكوارث الطبيعية وتلقي بظلالها على الجزيرة.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.