انشغل الناس – مؤخرًا – بالحديث عن إنشاء مؤسسة اسمها “تكوين الفكر العربي”، يقوم عليها أسماء بارزة ممن يحترفون إثارة الجدل وشَغْل الناس بمناقشة المسلّمات الفكرية والاعتقادية، وبالمواقف السياسية الداعمة لبعض الأنظمة والمعادية للإسلاميين عامة. وبدا تدشين هذه المؤسسة كما لو أنه إعادة إنتاج لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود” التي انتهت نهاية سيئة السمعة، ثم تقلصت إلى دار نشر تُواصل خطّها من خلال ترجمة كتبٍ ونَشْر أخرى تُوافق خطَّها العام.
في هذا المقال أوضح كيف أن مناقشة الأفكار شيءٌ، ومناقشة “سياسات الأفكار” شيءٌ مختلف تمامًا، وأن “تكوين” تندرج في نطاق “سياسات الأفكار” التي لا يُراد منها حقيقتها؛ لأن الأفكار هنا مجرد أداة من أدوات السلطة تُستخدم – في سياق الصراع السياسي والأيديولوجي – لملء الفراغ وخلق التوترات الداخليّة، ليتمكن النظام السياسي من إدارتها والتحكّم بها وشَغل الناس بها؛ لمنعهم من تحقيق أي تقدّم على المستوى السياسي؛ لأنه يحجب النقاش والعمل السياسيَين، ويفسح المجال – واسعًا – للنقاش حول الموروث الديني والمعارك الفكرية.
بين الرؤية والتطبيق
تقوم رؤية “تكوين” – بحسب موقعها الرسمي – على “تمهيد السبيل نحو مستقبل مشرق للمجتمعات العربية والإسلامية من خلال الثقافة والفكر الديني المستنير”، ولكن هذا “المستقبل المشرق” لهذه المجتمعات يقتصر – تحديدًا – على “الفكر الديني” (والمقصود به الإسلامي خاصة)؛ رغم أنها تزعم أنها تريد استعادة مكانة الفكر الديني “وتواصله وتكامله مع مستجدات العصر ومواكبة التقدم في كافة المجالات العلمية والفكرية والقيمية”.
وتشخص المؤسسة أزمتها وأزمة القائمين عليها في أن “بعض تأويلات الموروث الديني القديمة أدت بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية”، في تجاهل تامّ لدور الأنظمة السياسية العربية في هذه المآزق، فضلًا عن الإهمال التام لدور الجوانب السياسية والاجتماعية والقانونية في صياغة الواقع، وكأن المجتمعات العربية هي مجتمعات يحرّكها ويصوغها – فقط – الموروث الإسلامي على وجه الخصوص. ولتحقيق رؤيتها، تتوسل “تكوين” بطرح الأسئلة حول “المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين”.
ولكن نظرة فاحصة على المحتوى الذي نشره موقع “تكوين” – حتى الآن – كافية لبيان ملامح مشروع “تكوين” وأبعاده وأولوياته؛ إذ إننا نقف فيه على ثلاثة أمور رئيسة:
- الأول: مساءلة المسلّمات والتشكيك في الأصول الإسلامية كالسيرة النبوية والحديث النبوي، فضلًا عن طرح أسئلة سطحية وعامة تتناول ما عُلم من الدين بالضرورة كالسؤال عن: هل الخمر حرام شرعًا؟.
- الثاني: إعادة قراءة محطات تاريخية منتقاة لتثبيت فكرة محددة، كالحديث عن نهايات الخلفاء الراشدين، وعما أسماه الموقع “محن” بعض العلماء كأبي حنيفة وابن سينا وابن الهيثم؛ للزعم بأن الموروث الديني كان لديه مشكلة مع العلم والفلسفة مثلًا.
- الثالث: نقد الأفكار الحديثة التي توسل بها الإسلاميون في مشروعهم، أو معارضتُهم عبر الاستنجاد بتيارات فكرية مناقضة لهم. وهنا نَشر “تكوين” موادّ عن أوهام تأصيل “الحداثة العربية”، وعن مشكلة التفكير الهوياتي، وعن الماركسية والأحلام المحبَطة، وعن علمنة الأخلاق، وعن “لماذا أهدى ماركس رأسماله إلى تشارلز دارون؟”، وعن تعدد الإسلامات، وضرورة تجاوزها لصالح “إسلام القرآن” المفتَرض أنه تم تنكبه تاريخيًّا، في محاولة لاستعادة نقد الصادق النيهوم للخطاب الديني مع توسيعه، وكان النيهوم قد زعم قبل عقود أن “إسلام الفقهاء” حجب “إسلام القرآن”، وأن فقه الفقهاء تَشَكل بناء على تحالف مع الإقطاع ورجال السلطة!
سمات أربعة
يمكن وضع سمات خاصة تميز سياسات الأفكار، تظهر جميعًا في مشروع “تكوين” الذي جاء ليملأ الفراغ الذي تركه “مؤمنون بلا حدود” في هذا السياق، وهي:
- الأولى: التحريش وإثارة الجدل حول المسلمات والأصول
فثمة غرض مزدوج هنا هو الإلهاء والتعطيل. فالإلهاء يهدف إلى شغل عامة الناس والنخب العلمية بجدالات ومعارك هوائية تصرفهم عن القضايا الكبرى والقضايا الراهنة التي تمضي من فشل إلى فشل على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وقد جاء إنشاء “تكوين” والجدل حولها في سياق قضية كبرى تشغل العالم بأسره، وينتفض لها، وهي الحرب على غزة.
أما التعطيل فيظهر من خلال أن الفكرة الملهاة تُفسد الفكرة الأصل وتُفقر معناها، وتشغل الناس بالمعارك عن تطوير الأفكار في سياقات هادئة وغير سجالية، فالتحريش فعلٌ سياسي يشغل عن أداء الواجب والمسؤولية الأخلاقية، أما العمل الفكري فهو فعل معرفي يفرض مسؤوليات أخلاقية وعلمية تحكمها قواعد العلوم وأخلاقياتها ومقتضيات الوقت أيضًا، وحاجات الناس ومتطلبات المعرفة نفسها التي تحدد واجبات مخصوصة على أهل العلم في كل زمان، وهي أن يُسهموا في المعرفة الموروثة: نقدًا واستمرارًا وتراكمًا وتطويرًا.
ومن طبيعة المعارف نفسها أن أي علم أو نظرية فلسفية أو علمية تجريبية، لا بد أن تُبنى على مجموعة من المسلمات حتى يتسنى لأهلها البناء عليها والانتقال بها إلى مستوى آخر. أما عملية نسف المسلمات فهي عملية صفرية لا تنتمي إلى العمل المعرفي، إلا لو كانت “تكوين” تريد طرح دين جديد والدعوة إليه.
- الثانية: قصور الرؤية وإقصاء السياسي
انشغلت “تكوين” بنوع خاص – زعمت – أنه محنٌ، ولكن كتّابها والقائمين عليها لن يحدثونا – إطلاقًا – عن أدبيات المحن في التراث الإسلامي التي يتناول غالبها المحن السياسية الواقعة من ذوي السلطة، ومن أبرز الكتب في هذا المجال “كتاب المحن” لابن أبي العرب التميمي (ت. 333هـ)، فقد عرض فيه مؤلفه إلى ما نزل بالصحابة والزهاد والفقهاء والعبّاد والقادة والولاة والمحدّثين والقرّاء من محن، مثل الترويع والسجن والتعذيب والتغريب والقتل والصلب والقطع وغير ذلك.
وهو كتاب يعطيك صورة متكاملة عن المحن التي أصابت مختلف الأطراف؛ لأن وظيفة المؤرخ ليست كوظيفة “تكوين” الأيديولوجية التي تستخدم التاريخ سلاحًا في معارك الحاضر، وتتجاهل – في الوقت نفسه – محن الحاضر التي تعيشها عامة الشعوب مع الاستبداد والاحتلال معًا، والتي تفاقمت جدًّا منذ نحو عقد ونصف، ولا تزال محنة غزة الكبرى جارية منذ 7 شهور قبل تأسيس “تكوين” وأثناءه وبعده!.
ومن طرائف الأمور، أن موقع “تكوين” نشر مادة نقديّة عن حد الردة لنفي العقوبة على الردة عن الإسلام (وقد كتبتُ في هذا منذ أكثر من ربع قرن)، ولكن “تكوين” نفسها لا تجرؤ على نشر مادة تستنكر إيقاع عقوبة على من يعارض نظامًا سياسيًا أو ينتقده!.
و”المشروع النهضوي” الذي تتحدث عنه “تكوين” وتُنيط نفسَها به كما يُناط خلفَ الراكبِ القدَحُ الفردُ، كان قبل قرنين مشروعًا شاملًا، وكان رشيد رضا – على سبيل المثال – شديد الوعي بهذا حين تحدث عن أنواع من التجديد تشمل “التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني”.
وهذه الأنواع التي تحدث عنها رضا كفيلة بتحقيق “المصالح العامة” التي أجهضها الاستبداد والاحتلال معًا، ولن يوجد “مستقبل مشرق” من دون الحديث عن تجديد يتعلق بأمور المعاش كالزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد، لتجاوز حالة الفقر التي تعاني منها بعض شعوبنا.
وكيف يمكن الحديث عن مستقبل مشرق وتَقَدم من دون الحديث عن العلوم والفنون والتعليم والصحة والحريات والحقوق والقضاء العادل وحكم القانون؟. بل كيف تقوم لأمة قائمة من دون الحديث عن بناء دولة القانون والحريات ومن دون بحث الجانب العسكري الذي يصون الأمن القومي، ويحفظ حقوق الأمة خاصة في ظل ما يجري من عدوان إسرائيلي مدعوم أميركيًّا؟ بل إن من أسباب فشل الخطاب النهضوي الذي تزعم “تكوين” أنها حريصة على استعادته: الاستبداد والاستعمار.
- الثالثة: توهم أن العودة إلى النص الأصلي ستحل مشكلات الحاضر
وهذا الوهم وقع فيه الإصلاحيون والسلفيون قديمًا، ويستخدمه – حاليًّا – سياسيو الأفكار لمحاربة مشروع “الإسلام السياسي”، ويقوم على افتراض أن قراءتهم لما يُسمى “إسلام القرآن” هي قراءة خالصة، وليست تأويلًا جديدًا يضاف إلى التأويل التاريخي المستمر للنص الذي واكبه ممارسة حية تَشَكل منها ما سمي “التقليد الإسلامي” الذي كان تقليدًا حيًّا تَزَاوج فيه النص والتاريخ.
فسياسيو الأفكار يتوسّلون بالنص لنزع الشرعية عن الموروث الإسلامي الذي يزعم الإسلاميون أنه مرجعيتهم، فتطمح سياسة الأفكار إلى سحب البساط الذي يقف عليه الإسلاميون بزعمهم. وافتراض غياب المسافة الفاصلة بيننا وبين النص، هو نزوع حديث تَوَافق عليه السلفيون والإصلاحيون معًا؛ لأن كليهما يعادي التقليد، ويريد أن يتجاوز التجربة التاريخية، ويزعم أنه يمكنه القبض على المعنى الصافي للنص، ولا يعي أنه غارق في ثقافة زمانه وسياساتها أيضًا.
- الرابعة: القطيعة مع قيم الحداثة؛ رغم ادّعاء الوصل بها
ففي الوقت الذي تزعم فيه “تكوين” أنّها تريد أن تصل بين الفكر الديني و”مستجدات العصر”، وأنها تريد للفكر الديني أن يواكب “التقدم في كافة المجالات العلمية والفكرية والقيمية”، نجد أن المكوّنين أنفسهم لا يقدّمون أي إسهام يُذكر في نشر أفكار الحداثة والتقدم على المستوى السياسي والاجتماعي، فأين هم من أفكار الديمقراطية والعدالة والإصلاح الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني وحقوق المواطنة والدولة المدنية والحريات الفردية إلى غير ذلك؟ أي أن المكوِّنين أنفسهم يفتقرون إلى مستجدات العصر، ولديهم قطيعة معها وهم أحوج الناس إلى التكوين والتنوير!
والله أعلم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.