في ربيع العام الأول من القرن العشرين، وُلد الأمير هيروهيتو في قصر طوكيو، حيث كان جدّه موتسوهيتو -الذي مُنح بعد رحيله لقب الإمبراطور ميجي- يقطف ثمار إصلاحاته ويتطلع لتوسيع حدود إمبراطوريته، فلم يكمل الأمير عامه الخامس حتى هزَمت اليابان روسيا وطردت قواتها من كوريا، وأصبحت القوة العظمى في كل آسيا والمهيمنة على منطقة المحيط الهادئ.
نشأ هيروهيتو في عزلة إمبراطورية داخل أسوار القصر، وعندما بلغ العاشرة من عمره توفي جده الإمبراطور ميجي، فرأى الأمير الصغير طقوس انتحار الجنرال نوغي ماريسوكي الذي كان الحاكم الياباني على تايوان، إذ لم يتردد الجنرال الكبير وهو في سن الثانية والستين في الالتزام بالقواعد الشنتوية القديمة المتمثلة في لحاق الخدم بأسيادهم في الموت، فانتحر مع زوجته بطعن بطنيهما بسيوف الساموراي وفقًا لطقوس “الهاراكيري”، ولا سيما بعد إقرار الجنرال بفقدان الكثير من جنوده في المعارك. ولعل هذا الحدث قد أثار إعجاب الأمير الطفل، ورسّخ في نفسه الاعتزاز بالشنتوية.
جلس يوشيهيتو على العرش، وأصبح ابنه هيروهيتو وليًّا للعهد، وتربى على التقشف والانضباط واحترام قواعد الشنتو، كما تلقى تعليمًا حديثًا ضمن المنظومة التعليمية المتقدمة التي أنشأها الإمبراطور ميجي للحاق بالغرب. وكان ولي العهد مولعًا بعلم الأحياء (البيولوجيا)، ويُحسب له اكتشاف نوع جديد من الرُبيان على شاطئ مقاطعة سوروجا، فأُعطي هذا النوع اسمًا جديدًا يحمل معنًى إمبراطوريًّا هو “سيمباسيفيا إمبيرياليز”. كما أمر بإنشاء وتجهيز مختبر للدراسات البيولوجية البحرية داخل القصر، وواصل إجراء أبحاثه فيه حتى أواخر حياته.
وعندما بلغ سن العشرين، تمكّن فريق إصلاحي من رجال القصر من إقناع الإمبراطور والحاشية بالسماح لولي العهد هيروهيتو بالسفر إلى الخارج، لكن الفريق التقليدي أصيب بالذعر من خرق قوانين البلاط، إذ لم يسبق قط أن غادر ولي العهد الإمبراطوري “أرض الآلهة”، وهدد حرّاس القيم الشنتوية بالانتحار وإلقاء أنفسهم تحت عجلات القطار الذي يحمل ولي العهد إلى سفينته، لكن الأمير الصغير تمسك بموقفه ونجح في السفر بدون سفك للدماء، وانطلقت سفينته لتزور عدة محطات آسيوية مرورًا بالقاهرة وقناة السويس، ثم بدأ اكتشاف أوروبا التي كانت مشغولة برفع أنقاض الحرب العالمية الأولى، فزار المملكة المتحدة وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا والفاتيكان، وحظي خلال ستة أشهر باستقبالات رسمية ومآدب ملكية.
لم تخلُ جولته خارج “أرض الآلهة” من مواقف مربكة له ولمرافقيه، ففي باريس ذهب للتسوق واكتشف أنه بحاجة إلى التعامل بالمال، لكن النقود تُعدّ من المدنّسات التي لا يجوز لسليل الآلهة أن يلمسها. وفي لندن، تشابكت مخطوطة طويلة كان يقرأ خطابه منها فلم يستطع الجمهور الذي لم يكن متقيدًا بقواعد الشنتو أن يكتم ضحكه. وعندما أصر ولي العهد الشاب على تجربة ركوب قطار الأنفاق في لندن متخفيًا، أصيب مرافقوه بالذعر وهم يراقبون الموظف يوبخه لأنه لم يكن يحمل تذكرة.
عاد ولي العهد إلى اليابان محمّلًا ببعض الأفكار الليبرالية، ومقتنعًا بضرورة تقليص الحواجز التي تحجبه عن الشعب، لكن معارضة البلاط كانت كفيلة بالحدّ من طموحه. وفي العام التالي، أصبح هيروهيتو وصيًّا على عرش اليابان بدلًا من والده يوشيهيتو الذي كان يعاني من مرض عقلي. وفي أواخر 1926 توفي يوشيهيتو، وأقيمت احتفالات باذخة لتنصيب هيروهيتو إمبراطورًا وهو في سن الخامسة والعشرين، حيث ارتدى زي أسلافه البرتقالي الطقسي، وقدّم قربانًا من الأرز المقدس عند ضريح “جدّته” إلهة الشمس.
لم يكن هيروهيتو يتمتع بقوة الشخصية الكافية لاحتكار زمام السلطة، وكان بلاطه منقسمًا بحدة بين فريقي اللحاق بالغرب والحفاظ على التقاليد اللذين تشكّلا في عهد جدّه الإمبراطور ميجي، كما شهدت سنوات حكمه الأولى محاولات للتمرد في كوريا، مما منح الفرصة لقادة الجيش لاستعادة نفوذهم في البلاط بشكل يذكّر بما كما كان عليه الحال في النظام الشوغوني، فأطلقوا عام 1931 مرحلة جديدة من التوسع الاستعماري بالمزيد من التوغل في الأراضي الصينية واحتلال منشوريا، ثم غزو شمال الصين عام 1937 ودخول بكين وشانغهاي والعاصمة آنذاك نانجينغ، والتطلع لاحتلال الصين كلها وإجهاض محاولاتها لتطوير جيشها واقتصادها.
في صيف 1938، تمكنت المقاومة الصينية من صدّ الهجمات اليابانية وإيقاف تقدمها، وفي الوقت نفسه قرر قادة الجيش الياباني غزو الاتحاد السوفياتي، ومع أنهم أحرزوا بعض المكاسب فإن القوات المنغولية والسوفياتية حالت دون توغل اليابانيين في وسط آسيا، فقرروا توجيه أطماعهم نحو المستعمرات الأوروبية في المحيط الهادئ لانتزاعها.
لم يُبدِ هيروهيتو اعتراضًا على غزو الصين لكن بعض المصادر تذكر أنه كان مترددًا، كما أوهمه قادة الجيش بأن الحرب لا تستغرق سوى بضعة أشهر، ويحمّله مؤرخون غربيون مسؤولية المجازر الفظيعة التي ارتكبتها قواته في الصين، وأنه أعطى الإذن باستخدام الغاز السام في مئات الهجمات خلال عام 1938.
وبينما كان الجنرالات والأدميرالات اليابانيون يضعون الخطط للتوسع في أراض جديدة وقمع المتمردين في مستعمراتهم، كان هيروهيتو يعيش بهدوء داخل أسوار القصر الإمبراطوري في طوكيو، ويكتب أشعارًا تدعو إلى السلام والوئام بين الأمم، ويمارس أحيانًا هوايته المفضلة في دراسة علم الأحياء والتأمل في الكائنات البحرية الدقيقة تحت المجهر. كما كان يمر أحيانًا بموكبه الإمبراطوري في الشوارع القريبة من قصره، مما جرّأ ناشطًا كوريًّا في مطلع عام 1932 على محاولة اغتياله بقنبلة يدوية، لكنها لم تسفر عن أي أذى يذكر.
الحرب القاصمة
في أواخر عام 1936، اتفقت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا على تشكيل “حلف مناهضة الكومنترن” لمنع تمدد الشيوعية الأممية، مما يعني بطبيعة الحال التصدي للاتحاد السوفياتي. وبعد ثلاث سنوات من التوترات والصراع على النفوذ بين القوى الكبرى، غزا الزعيم الألماني أدولف هتلر بولندا في سبتمبر/أيلول 1939، مطلقًا شرارة الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما انقسم الميدان إلى طرفين، أولهما “المحور” الذي ضم اليابان وألمانيا وإيطاليا، وهي دول تتطلع إلى أكبر قدر من التوسع لتعويض ما فاتها، والثاني يضم “الحلفاء” من الدول الاستعمارية -وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا- التي كانت قد بلغت ذروة توسعها، قبل أن تنضم إليها الولايات المتحدة لاحقًا.
نجحت اليابان خلال الحرب في احتلال ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وسنغافورة، كما وضعت يدها على حقول النفط الإندونيسية مما شكّل خسارة ثقيلة لبريطانيا وحلفائها، ثم جاءت الضربة القاصمة في أواخر 1941 بتجرّؤ اليابانيين على استهداف الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، وهي الخطوة التي دفعت الولايات المتحدة إلى الخروج من عزلتها ودخول الحرب حتى رجحت الكفّة لصالح الحلفاء.
كانت الدعاية الإعلامية (البروباغندا) اليابانية تقدّم الإمبراطور للشعب في صورة الأب الحنون والمنتصر في كل المعارك برعاية الآلهة، وحتى انسحابات الجيش وخسائره المتتالية في عام 1944 كانت تُفسَّر على أنها نجاحات مرحلية على طريق “النصر المؤكد”، لكن الاستهداف الأميركي لسفن الشحن اليابانية واستمرار الغارات الجوية على المدن الرئيسية وتفاقم أزمة الغذاء والسكن كانت أمورًا كفيلة بإثارة غضب الشعب، فقرر الإمبراطور التضحية برئيس الوزراء هيديكي توجو وتعيين رئيسين آخرين للوزراء لمواصلة القتال، لكن الخسارة اليابانية في الحرب كانت تزداد وضوحًا مع مرور الوقت.
في منتصف 1944 بدأت القوات اليابانية تنفيذ أكثر مخططاتها مأساوية في الحرب، فبعدما أصبح حلم النصر أقرب إلى الاستحالة استعاد الضباط عقلية الساموراي وأعادوا بثها في عقول طياريهم من الشباب، لينطلقوا بطائراتهم الانتحارية تحت شعار “الموت بشرف” بهدف تدمير سفن الحلفاء. وهكذا بدأت ظاهرة “الكاميكازي” -أي الرياح الإلهية- التي استعادت أسطورة عاصفة أرسلتها أرواح الآلهة “كامي” على أساطيل المغول الغزاة في القرن الثالث عشر فدمّرتها، فأصبحت أرواح الشباب اليابانيين تُقدَّم فداءً لأرض الآلهة والإمبراطور الإله.
ضحّت اليابان بأكثر من 3900 طيّار من خيرة شبابها في هذه الظاهرة الانتحارية، وأن كل هجماتهم لم تسفر عن إغراق أي حاملة طائرات أو طرادات أو بوارج، إذ بلغت نسبة إغراق السفن التي تعرضت لهذه الهجمات حوالي 8%. مع أن القوات البحرية اليابانية نجحت في 1942 في إغراق أو تعطيل ثلاث حاملات طائرات أميركية من دون عمليات انتحارية.
في مطلع 1945 بدأ مستشارو الإمبراطور محاولة إقناعه بالتفاوض لإنهاء الحرب من دون جدوى، وفي شهر مايو/أيار استسلمت ألمانيا وانتحر هتلر، وكان الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني قد قُتل على يد الثوار قبله بأيام، فبقي هيروهيتو وحيدًا في الميدان، ومع ذلك أصر على القتال حتى آخر رجل، لكن استمرار الضغوط من داخل البلاط دفعته في شهر يونيو/حزيران إلى قبول التفاوض مع السوفيات على صيغة للسلام.
كان المجتمع الياباني في حالة تفكك غير مسبوقة، فثمة تهديدات بثورة شيوعية تطيح بالعرش الإمبراطوري، مقابل تهديدات أخرى من الشنتويين المتعصبين بالانتحار الجماعي وتفضيلهم للموت على عار الاستسلام، أما هيروهيتو فكان يشترط في كل مفاوضاته الحفاظ على نظام الحكم المسمى “كوكوتاي”، الذي يتضمن الحكم الإمبراطوري والدستور وهوية الدولة.
في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة تخطط مع حلفائها لإطلاق “عملية أولمبيك” التي تتضمن عمليات إنزال ضخمة لغزو اليابان، مع توقعات بمقتل المزيد من ملايين البشر من كل الأطراف. وتمهيدًا للعملية، قُصفت العاصمة طوكيو بأطنان من القنابل الحارقة في شهر مارس/آذار، فقُتل خلال يومين نحو مئة ألف إنسان. وبحلول منتصف يونيو /حزيران كانت أكبر ست مدن في اليابان قد تحولت إلى ركام، ثم جاءت الضربة الموجعة في السادس من أغسطس/آب عندما ألقت الولايات المتحدة أول قنبلة نووية فوق مدينة هيروشيما.
مُحيت المدينة في غضون دقائق، وألقى الرئيس الأميركي هاري ترومان بيانًا تناقلته إذاعات العالم هدد فيه اليابانيين إذا لم يقبلوا شروط الحلفاء بسيل من الدمار لم يسبق له مثيل، ويليه غزو بحري وبري يجتاح البلاد. ومع ذلك، أصرت اليابان على مواصلة القتال، وحثت مواطنيها عبر الإذاعة على إخلاء المدن الكبرى مع إبلاغهم بأن هيروشيما قد دُمرت بالفعل بقنبلة واحدة. وفي منتصف ليلة التاسع من أغسطس/آب، شنت القوات السوفيتية عملية “الهجوم الإستراتيجي المنشوري” لانتزاع منشوريا، معلنة الحرب رسميًّا على اليابان، مع أن البلدين كانا ملتزمين باتفاقية للحياد طوال الحرب. وبعد بضع ساعات فقط، ألقت طائرة أميركية قنبلة نووية أخرى على مدينة ناغازاكي.
خلال الأيام الثلاثة التالية، كانت الولايات المتحدة تجهز قنبلة نووية أخرى للاستخدام، وكان من المقرر أن تُلقى فوق منطقة غير مأهولة بالمدنيين، كما كانت الخطة تقتضي تجهيز ثلاث قنابل أخرى في سبتمبر/أيلول وثلاثًا في أكتوبر/تشرين الأول، على أن تُطلق عملية أوليمبك لاجتياح اليابان في الشهر نفسه، لكن المسؤولين اليابانيين كانوا يواصلون اجتماعاتهم خلال هذه الأيام لتقرير صيغة الاستسلام. وفي الثاني عشر من أغسطس، أبلغ هيروهيتو العائلة الإمبراطورية بقراره بالاستسلام، وعندما سأله أحد الأمراء عما إذا كانت الحرب ستستمر إذا لم يقبل الأعداء الحفاظ على “الكوكوتاي” أجابه هيروهيتو: “بالطبع”، وكأنه كان مستعدًا للتضحية بمن تبقى من الشعب في سبيل الحفاظ على العرش ونظام الحكم.
وبعد يومين، ألقى هيروهيتو خطاب الاستسلام عبر الإذاعة، ولم يذكُر فيه كلمة “الاستسلام”، بل قال إنه قرر القبول بأحكام “الإعلان المشترك لدول التحالف”، موضحًا أن العدو بدأ استخدام قنبلة جديدة لا يمكن حساب قوتها، وأن الاستمرار في القتال لن يؤدي إلى انهيار الأمة اليابانية ومحوها فقط، بل أيضًا إلى الانقراض الكامل للحضارة الإنسانية. ونظرًا إلى رداءة البث واختيار الإمبراطور ألفاظه بلغة رسمية، التبس الأمر على الجماهير، فأعلنت الإذاعة بكل وضوح أن اليابان تقبل الاستسلام بلا قيد أو شرط.
وبعد خمسة أيام، ألقى هيروهيتو خطابًا للجنود، ولم يشر فيه إلى القنابل النووية، بل برّر الاستسلام بإعلان الحرب السوفياتي الذي وصفه بأنه “يعرّض وجود الإمبراطورية للخطر”.
تباينت ردود اليابانيين على قرار الاستسلام، فكانت هناك محاولة فاشلة للانقلاب، كما فضّل بعض ضباط الجيش والبحرية الانتحار على الطريقة الشنتوية لصعوبة قبولهم فكرة الاستسلام، وتجمّع حشد صغير من الناس أمام القصر الإمبراطوري للبكاء، بينما أخفى الكثير من الناس شعورهم بالفجيعة والغضب من ضياع كل التضحيات الهائلة التي قدموها سدى، إذ خرجت بلادهم من هذه الحرب في حالة دمار شامل، وخسرت كل مستعمراتها الخارجية، ولم تحقق أي مكاسب تُذكر. أما جماهير دول الحلفاء فاستقبلت نبأ استسلام اليابان باحتفالات ضخمة، ورُفعت صور ولافتات في شوارعها المدمّرة لتجسيد الانتصار، كما اعتُمد تاريخ 14 أغسطس/آب يومًا للاحتفال بذكرى الانتصار على اليابان في بعض الدول.
في 19 أغسطس/آب، توجه مسؤولون يابانيون إلى مانيلا للقاء القائد الأعلى لقوات التحالف الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر والاطلاع على خططه لاحتلال اليابان وفقًا لشروط الاستسلام. وفي 28 أغسطس/آب، بدأ الاحتلال الأميركي لليابان بالفعل، وبعد يومين وصل ماك آرثر إلى طوكيو وأصدر أوامره لأفراد قوات التحالف بعدم الاعتداء على الشعب الياباني، وأنه لا يُسمح لهم بالاقتراب من مصادر غذاء الشعب.
وفي صباح 2 سبتمبر/أيلول، شهد سطح السفينة الحربية الأميركية “يو إس إس ميسوري” (USS Missouri) الراسية في خليج طوكيو مراسم توقيع وزير الخارجية الياباني مامورو شيغميتسو وقائد الجيش الجنرال يوشيهيرو أوميزو على وثيقة الاستسلام، وذرف بعض الضباط اليابانيين الدموع وهم يراقبون المشهد بصمت.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.