في مقطع مرئي نشرته كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قبل عدة أشهر لعرض الأساليب التدريبية التي يتلقاها جنود المقاومة، ظهر بجلاء استخدام الجنود لبندقية فريدة من نوعها، مميزة بامتزاج اللون المعدني بالخشبي. يمكن بسهولة ملاحظة وجود تلك البندقية في المقطع من حين لآخر، وكذلك في المقاطع التي صدرت أثناء الحرب الجارية في قطاع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، وهي واحدة من القطع العسكرية الأساسية لترسانة كل فصائل المقاومة تقريبا، إنها بندقية الكلاشِنكوف الشهيرة.
وقد خلصت إلى النتيجة نفسها وكالة الأسوشيتد برس في تحليل لأكثر من 150 مقطع فيديو وصورة تم التقاطها أثناء الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. حيث ظهرت بندقية الكلاشِنكوف من فئة ” أيه كيه 47″ (AK-47) تحديدا إلى جانب ترسانة متنوعة من الأسلحة المحلية والمستوردة، التي عملت حماس على تزويد جنودها بها وتدريبهم عليها على مدار السنوات الماضية.
البندقية رقم 1
تمثل بندقية الكلاشِنكوف مزيجا متطورا من تقنيات البنادق السابقة لها، وحينما ابتكرها العسكري والمخترع الروسي “ميخائيل تيموفيَفِيتش كَلاشْنيكوف” أثناء تعافيه من الإصابات التي أصيب بها أثناء القتال في الحرب العالمية الثانية، قرر آنذاك الجمع بين أفضل ميزات البندقية الأميركية “إم 1” (M1) والبندقية الهجومية الألمانية “أس تي جي 44” (StG 44)، وهما البندقيتان الأكثر تطورا في حينه. ودفع ذلك كَلاشْنيكوف إلى الإشارة إلى أن أي محاولة لاختراع شيء جديد تتطلب من المُصمم أن يمتلك تقديرا جيدا وإلماما بكل ما هو موجود بالفعل في هذا المجال.
صُمِّمَت بندقية “أيه كيه 47” الأولى على هيئة بندقية أوتوماتيكية بسيطة التكوين، ولكن موثوقة في الوقت ذاته، بحيث يمكن تصنيعها بسرعة وبتكلفة زهيدة، مع إمكانية إنتاجها بكميات ضخمة. وفي هذا السياق صُمِّمَت البندقية بحجرة غاز كبيرة ومساحة كبيرة بين الأجزاء المتحركة (الأجزاء التي تعمل معا لتمكين البندقية من الإطلاق والتحميل والتفريغ والصيانة)، مع طلقات مُدبَّبة، وهو ما يسمح للبندقية أن تتحمل التلوث بكميات كبيرة من مواد مثل التراب والماء والقاذورات دون الفشل في دورة العمل.
ولهذه الأسباب تميل هذه البندقية بكل أجيالها إلى البقاء سليمة تحت كل الظروف، سواء كان الطقس حارا أو ممطرا أو كانت المعركة في الصحاري أو الغابات أو السهول الطينية أو بين طرقات المُدن، والأهم من ذلك أن تركيبها البسيط يُسهِّل صيانتها، فهي تتكون من عدة قطع واضحة يسهل معرفة تركيب كل منها في الأخرى، بحيث يكون حاملها هو نفسه الخبير في تفكيكها وتصليحها أو صيانتها وتركيبها من جديد. ومن مزايا تلك البندقية إمكانيةُ التدرُّب عليها سريعا بالنسبة لأي مبتدئ، حيث يمكن تحقيق الكفاءة الأساسية لإدارة بندقية من هذا النوع في غضون بضعة أيام أو أسبوع من التدريب، ويتضمن ذلك التعرف على أجزاء السلاح والتشغيل والصيانة وتمارين الذخيرة الحية.
ولإطلاق النار، يقوم المشغل بإدخال مخزن مُحمَّل بالطلقات من الأسفل، ثم يسحب مقبض شحن الطلقات إلى الخلف ويتركه مرة واحدة، ثم يضغط على الزناد. في الوضع شبه التلقائي، فإن المستخدم يُطلِق النار مرة واحدة مع كل ضغطة زناد، لكن في الوضع التلقائي بالكامل تستمر البندقية في إطلاق رصاصات جديدة تلقائيا حتى نفاد الخزنة أو ترك الزناد. والسر في ذلك هو مكبس الغاز الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فبعد اشتعال الطلقة تتحوَّل غازات الدفع الصادرة منها إلى غرفة غاز مغلقة ويؤدي تراكم الغازات داخلها إلى دفع مكبس يتسبب بدوره في إطلاق رصاصة جديدة تلقائيا، وهكذا يستمر ضرب الطلقات، بمعدل يصل في المتوسط إلى 600 طلقة في الدقيقة الواحدة.
تُطلق بندقية الكلاشِنكوف من فئة أيه كيه 47 طلقة متفجرة من عيار 7.62×39 مليمترا بسرعة تبلغ 715 مترا في الثانية، ويبلغ وزنها 16.3 غراما، وهو وزن متوسط يجعل من مزايا البندقية أنها خفيفة نسبيا، ويمكن حملها بسهولة مسافات طويلة، وحمل كمية كبيرة من رصاصاتها الخفيفة كذلك.
وبشكل عام، تعتبر رصاصة الكلاشِنكوف من أفضل الرصاص في العالم لعدة أسباب إضافية، منها أنها مدببة؛ مما يساهم في التشغيل السلس للبندقية ويعزز قدراتها على تحمل كل الظروف البيئية، كما أنها توفر توازنا جيدا بين الحجم والقوة؛ مما يجعلها فعَّالة لمجموعة واسعة من التطبيقات العسكرية. وكذلك تساعد طلقات الكلاشِنكوف على تخفيف ارتداد البندقية (القوة العكسية التي تحدث عند إطلاق النار من البندقية)، وهو أمر مفيد في إطلاق النار التلقائي، حيث يسهل على حاملها التركيز بدرجة ما على الهدف، علاوة على أن إنتاج هذا النوع من الطلقات غير مكلف نسبيا. وقد جعلت هذه الخصائص مجتمعة طلقات الكلاشِنكوف خيارا شائعا لدى العديد من الأسلحة النارية الأخرى في العالم.
الكلاشِنكوف وخطة حماس
على الرغم من وجود عدة عيوب في تلك البندقية، مثل الافتقار إلى الدقة، خاصة عند استخدامها على مسافات أطول، وقِصَر مداها الفعال، وقلّة خيارات التخصيص المتاحة فيها، مثل القضبان الملحقة وأنظمة تركيب البصريات والتحسينات المريحة؛ فإنها تظل من أكثر بنادق العالم استخداما ورواجا على الإطلاق. في الواقع يستخدم المقاتلون في جميع أنحاء العالم تقريبا تلك البندقية، وتشير تقديرات إلى أن عدد القطع المنتشرة منها في العالم اليوم قد يصل إلى 100 مليون بندقية.
إنها السلاح المفضل لدى الجميع، إذ تستعملها الجيوش وقوات التمرُّد وحركات الكفاح المسلح، بل حتى العصابات المسلحة وشبكات الجريمة المنظمة. ويبدو هذا منطقيا لأن إنتاج البندقية غير مكلف نسبيا، وهي قصيرة وخفيفة الحمل، وسهلة الاستخدام مع القليل من الارتداد، كما أنها تتمتع بموثوقية “أسطورية” في ظل مختلف الظروف البيئية والمناخية القاسية.
ويُمثل كل ما سبق مزايا هامة للمقاومة الفلسطينية. ففي مواجهة جيش مدجّج بالعدة والعتاد، بمدد لا ينقطع من الولايات المتحدة، يصبح أفراد المقاومة في أمسّ الحاجة إلى استثمار كل فرصة ممكنة في سبيل الحصول على سلاح فعال ورخيص مقارنة بالمنافسين (بسعر يبدأ من عدة مئات من الدولارات للقطعة الواحدة)، والأهم من ذلك أنه متوفر ويسهل الحصول عليه.
في هذا السياق تخوض المقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي شكلا من أشكال الحرب غير المتكافئة القوى. ومما لا يحتاج إلى عميق نظر، معرفة امتلاك الاحتلال آليات عسكرية من طائرات ودبابات ومدافع وجنود وجاهزية تتفوق تقنيا على المقاومة التي قُيِّد حصولها على السلاح على مدى سنوات طويلة بكل الطرق الممكنة. ولكن ذلك لا يعني أن الانتصار حتمي للجيوش التي تثبت تفوقها التقني، ففي الحرب غير المتكافئة من هذا النوع، يمكن للطرف الأضعف تقنيا أن يلجأ إلى تكتيكات غير تقليدية تعطيه الأفضلية في ساحة المعركة، مثل إستراتيجيات الكر والفر، أو انتقاء المعارك في الزمان والمكان الملائمين، أو استخدام أسلحة رخيصة الثمن لكنها فعالة جدا في نطاق عملياتي محدد بحيث توازن القوى من حيث التأثير مع نظيراتها من التقنيات الغالية.
يظهر ذلك بوضوح في الحرب المدينية أو الحضرية، تلك التي يكون للمُدافِع فيها ميزة على المهاجم بوجود الأول داخل تضاريس تُمكِّنه من الاحتماء واصطياد الطرف الآخر، حيث توفر التضاريس الحضرية دائما نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية مهمة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع مهمة خطيرة جدا على أي من جنود دولة الاحتلال، بل وأي من الجيوش الأكثر تقدما في العالم بشكل عام.
ويسهِّل ذلك على جنود المقاومة بناء الكمائن المتخفية لاستهداف جنود الاحتلال، وهنا يكون لبنادق الكلاشِنكوف، بسبب فعاليتها في المسافات القصيرة، دور فعال في هذه النوعية من المعارك، فرغم أن مداها لا يتجاوز 350 مترا أو أكثر قليلا وتنخفض دقتها كلما طالت المسافة، فإنها تمثّل خيارا ممتازا للمقاومة في نطاق الشوارع الضيقة والأزقة.
وبشكل خاص، تميل المقاومة إلى بناء كمائن مركبة تستخدم فيها أسلحة متنوعة، فتستخدم قذائف مثل الياسين 105 لتدمير لتدمير الآليات الإسرائيلية وإيقاف تقدمها، ولنفس الغرض تستخدم العبوات الناسفة التي تفخخ المنازل والطرق كذلك، وإلى جانب ما سبق يستخدم الكلاشنكوف لإمطار الجنود بالرصاص أو الهجوم عليهم في مواضع تحصُّنهم. هذا التركيب في العمليات القتالية يُصعِّب على العدو المواجهة، حتى لو امتلك أسلحة أكثر تقدما، وهو يمتلكها بالفعل في هذه الحالة.
رمز للمقاومة
في عام 1949، أصبحت الكلاشِنكوف البندقية الهجومية للجيش السوفيتي، ومع نجاحها في المعارك استخدمتها دول أخرى في حلف وارسو، الذي تأسس لمواجهة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسرعان ما انتشر السلاح في جميع أنحاء العالم، وأصبح رمزا للثورة في بلدان مثل فيتنام وكولومبيا وموزمبيق، والأخيرة لديها علاقة فريدة بالكلاشِنكوف، حيث يظهر السلاح على علمها بوضوح.
وقد استخدم مقاتلو قوات الفيت كونغ الفيتنامية بنادق الكلاشِنكوف وغيرها من المعدات التي تم تصنيعها وتوريدها في الغالب من قبل الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية في حربهم ضد القوات الأمريكية قبل حوالي نصف قرن. وقد تركت حرب فيتنام أثرا عميقا في الجنود الأمريكيين بسبب استهدافهم من كمائن قريبة. وفي حالة شبيهة بما تفعله المقاومة في غزة، استخدمت قوات الفيت كونغ الأنفاق لتحقيق الهدف ذاته في مواجهة القوات الأميركية الغازية، حيث أمكن لجندي المقاومة أن يظهر فجأة من أي مكان، مثل الشبح، ومع المسافات القصيرة أثبتت بندقية كلاشِنكوف فعالية كبيرة.
يضاف إلى ذلك أن بيئة الأراضي الفيتنامية التي تزخر بالغابات المطيرة الطينية، أتاحت الفرصة لاختبار قدرات هذه البندقية في أعقد البيئات. وقد نجحت البندقية بالفعل في الاختبار مقابل البنادق الأمريكية “إم 16″، التي كانت تزيد معدلات تعطُّلها بعد تعرُّضها للطين وغيره من ملوثات تلك البيئة. بل ونشأت في هذا السياق حكايات مفادها أن الأمريكيين كانوا يتخلصون من بنادق “إم 16” ويأخذون بنادق كلاشِنكوف من الجنود الفيتناميين المقتولين. ورُغم عدم التأكد من صحة تلك الحكايات، فإنها تشير إلى إخفاقات الأميركيين حينها، والتفوُّق الذي أبداه الفيتناميون.
عند تلك النقطة تحولت البندقية إلى رمز يعبر عن نظرة رومانسية متمردة للحروب ضد القوى الكبرى، وجرى ذلك في كل أنحاء العالم. فعلى الرغم من عدم استخدامها مطلقا أثناء الثورة الكوبية، فإن الآلاف من المنتجات المقلدة في الأسواق إلى اليوم تُظهِر المناضل الاشتراكي “تشي جيفارا” وهو يحمل بنادق كلاشِنكوف. وفي المقابل دأبت السينما الأمريكية على إظهارها بوصفها بندقية الأشرار في أفلام الإثارة؛ مما وضع الكلاشِنكوف في حرب ثقافية لعلها لا تقل تأثيرا عن الحرب التي يُطلق فيها الرصاص.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من في بي دبليو الشامل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.